Atwasat

سينما أبونجيم وسقوط دولة النجع!

علي جماعه علي الثلاثاء 21 فبراير 2017, 01:52 مساء
علي جماعه علي

«وهزمت عصا الراعي صولجان الملك، وانتصرت الخيمة على القصر»
نقشت هذه العبارة على إحدى جدران مدينة طرابلس وكأنها الإعلان التأسيسي لدولة "النجع" بزعامة معمر القدافي إلى أن تهاوت عندما عصفت بخيمتها رياح الربيع العربي، فهتكت أستارها وسقطت أعمدتها وانقلعت أوتادها وطارت مع الريح.

وبالنظر إلى الخلف، حوالي خمس سنوات بعد استلام العقيد للسلطة، كنت طفلاً بين أقراني نجلس على رمال نظيفة في الهواء الطلق في ليلة مقمرة هادئة في قرية أبونجيم النائية وسط الصحراء. هبت نسمات عليلة منعشة تشاكسني وأنا أشاهد مندهشاً ومذهولاً المهاري التارقية الضخمة وهي تتهادى على حائط مبنى "المديرية" الأبيض ومعها تطرب أسماعي موسيقى تارقية ساحرة. للحظات كنت أخشى أن تداهمني تلك المهاري القادمة نحونا، لكنها لا تفعل فأتنفس الصعداء. فما أشاهده لم يكن إلا لقطات في شريط سينمائي عنوانه "غدامس جوهرة الصحراء" حضره معنا كذلك رجال ونساء القرية في مشهد سوريالي مثير.

دولة النجع صممها معمر القذافي بعناية خاصة لإضعاف دور المؤسسات وضرب روح المبادرة الفردية والتنافس السياسي والتنوع والتلاقح الحضاري

لقد كان العرض السينمائي الأخير، وكأنه في رمزية نهايته، رسم نهاية حقبة "تمدين البادية" ليدشن حقبة "بدونة المدن" حيث ساءت لاحقاً أحوال دور السينما في المدن الكبرى ولم تكن المسارح والمكتبات استثناء. غادرت السينما قريتنا إلى هذه اللحظة، وبدأت الاستعدادات في مكان آخر لوضع اللمسات الأخيرة لفيلم الدراما الكوميدية لدولة النجع التي أسسها معمر القذافي وحملت بصماته ونفخ فيها من روحه، وتعايش معها الليبيون وأخذت من روحهم الوثابة التواقة للتغيير والتجديد والمقبلة على الحياة.

دولة النجع استعارت من النجع أدواته وتم تعليبها في قالب عصري أغدق عليه من أموال النفط وتم فرضها بالحديد والنار حتى صارت حقاً دولة النجع الحديدي. عكست تمظهرات وتهويمات هذه الدولة مزاج صاحبها المنحدر من بيئة بدوية بسيطة فقيرة متقشفة منعزلة، مكتفية بذاتها، متوجسة من الغريب. لقد أظهر معمر القدافي امتعاضه من البيئة المدنية المعقدة السريعة المزدحمة ونفوره من مطالب أهل المدن المزعجة وأنانيتهم (فرديتهم) في قصة قصيرة حملت اسمه بعنوان "القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء".

في دولة النجع، حلت الخيمة محل القصر الرئاسي في رمزية لإخفاء أبرز مظاهر الدولة المدنية، فلم يعد هناك قصر رئاسي فاخر وجذاب يتنافس في الوصول إليه المواطنون عبر صندوق الانتخابات. ولأن الخيمة انتصرت على القصر فقد صارت لها الحظوة، فيها يستقبل الرؤساء والملوك وتنقل على متن السيارات الصحراوية أينما حل الزعيم من "السدادة" إلى "العثعث" وتشحن بالطائرة إذا يمم زعيمها شطر باريس أو بروكسل.

دولة النجع صممها معمر القذافي بعناية خاصة لإضعاف دور المؤسسات وضرب روح المبادرة الفردية والتنافس السياسي والتنوع والتلاقح الحضاري بغرض إنهاء القوى المضادة لمشروع الاستبداد الوليد، ففي دولة النجع ضربت النخبة لصالح الجمهرة والكفاءة لصالح الولاء وتحول فيها القذافي إلى "شيخ النجع" الحاكم المطلق يرتب بمزاجه المتقلب أحوال "نجعه الجماهيري" كيفما يشاء (من المحافظات إلى البلديات إلى الكومونات إلى الشعبيات) ويعود في المساء إلى الخيمة ليستمع إلى رهط من الشعراء يفيضون عليه بقصائد المدح والتمجيد.

في دولة النجع تم تهميش مؤسسة الجيش وسيطر الأبناء والأقرباء والموالون على كتائب الأمن، بل وصار من المعتاد أن ترى رجالا يرتدون الزي الشعبي في حراسة القذافي.

في دولة النجع تم إحياء القبلية لتملأ الفراغ السياسي الحزبي ولدعم الولاءات

وفي دولة النجع تم إحياء القبلية لتملأ الفراغ السياسي الحزبي ولدعم الولاءات، حتى أنك لتجد مقرات روابط الشباب القبلية في عاصمة الدولة تحمل لافتات بأسماء قبائلها عوضاً عن تشجيع نوادي العمل الشبابي المستقل.
وفي دولة النجع تم حرق الأدوات الموسيقية والاستهزاء بربطة العنق وتسمية لاعبي كرة القدم بأرقام غلالاتهم. وفي تماه مع أوضاع النجع اختفت خدمات البريد بل وصار من المتعذر الحصول على عناوين بريدية موثوقة لشوارع وبيوت ومؤسسات الدولة.

أخذت دولة النجع من النجع سماته، فهى غير مستقرة، منغلقة على نفسها، عنيفة في استجابتها للتحدي إذا كانت في موقف قوة. ومستسلمة خانعة إذا كانت في موقف ضعف. لم تتحوط دولة النجع لمفاجآت التغيير، فليس لها دستور إلا مزاج الحاكم وليس لحاكمها نائب وليس لها شرعية إلا فوهات البنادق. ومعارضوها في السجون أو منفيون ومؤسساتها هشة لا تقوى على مواجهة التهديد الجدي كما برز في أحداث "الربيع العربي" حيث نجت الدولة المدنية في تونس ومصر وانهارت "دولة النجع" في ليبيا.

كما في أرض الزلازل، تصمم البيوت مرنة تمتص الصدمات كي لا تسقط، فكيف لخيمة أن تواجه عاصف الرياح؟ يا للمفارقة، بقي قصر "الاتحادية" وقصر "قرطاج" وانتهت "خيمة القذافي"!