Atwasat

«أَ إِ أُ: أسد» ــ «بَ بِ بُ: بقرة»!

علي المجبري الأربعاء 08 فبراير 2017, 10:40 صباحا
علي المجبري

في أواسط الستينات كان أول درس لي في المدرسة وبالتحديد في مادة «المطالعة» هو تعلم الحروف التي تبدأ بها الكلمات، وكان أول درس في كتاب «المطالعة» يبدأ بهاتين الجملتين: «أَ إِ أُ: أسد» ــ «بَ بِ بُ: بقرة».. ومن هذه النقطة بالضبط سأبدأ كلامي في تفسير لغتي العربية حتى لا يخطيء أحدٌ فهمَها رغم بساطتها وكل ما تحمله من مباشرة ووضوح. منذ أيام نشرت مقالتين عن المصالحة والتصالح وجمع الفرقاء من أجل الوطن، وعن جيشنا الحقيقي وثوارنا الحقيقيين وعن الطاولة المستديرة ومصلحة ليبيا التي هي فوق كل مصلحة.

ولكن فوجئت بأحد الكتاب المثقفين، الذي أكن له كل احترام، يعلق على أفكاري بطريقة أزعجتني جداً وذكرتني في بعض فقراتها بالاستجواب البوليسي الذي طالما اختبرته وعانيته في حقبة الثمانينات الغابرة. لقد أنكر الكاتب الكريم أن يكون هناك «ثوارٌ» في ليبيا خارج إطار الجيش، وأن ليبيا ليس فيها من ثوار إلا الجيش ومن يقاتل معهم، والباقي هم إرهابيون ودواعش!!

ثم نعتنني بـ «الحِرص» مرة وسألني بنغمة التحقيق: «هل أنت مقتنع بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً ثوارٌ؟»، وطبعا أنا لم أذكر أي اسم من الأسماء التي نطق بها ولا غيرهم.. ولولا أنني بكل أسف أوقفت الحوار لوجدت نفسي داعشياً أو إرهابياً أو ربما حتى من تنظيم «بوكو حرام»!!.

فوجئت بأحد الكتاب المثقفين، الذي أكن له كل احترام يعلق على أفكاري بطريقة أزعجتني جداً وذكرتني في بعض فقراتها بالاستجواب البوليسي

ولأنني أحب أن أمسك الأشياء من بداياتها فسأبدأ من «أَ إِ أُ: أسد»، كما علمتنا مادة «المطالعة»، وسأرد على أفكاره بكل الود والإنصاف والنزاهة الأدبية. وهنا سأبدأ من نافلة القول: الثورة قام بها الثوار..، وهم شباب المدن في بنغازي وغيرها وساندتهم فيها قوات الصاعقة بكل ما أوتيت من قوة وعزم، ثم شيئاً فشيئاً انضمت إلى الثورة والثوار فصائل وسرايا من القوات المسلحة وشباب ورجال من كل شرائح الشعب.

فكان هؤلاء هم الثوار الأوائل، وكان منهم الرواد الذين أسقطوا كتيبة الفضيل ومنهم الذين تنادوا وتصدوا لرتل القذافي في 19 مارس 2011. فكل من تصدى وقاوم كتائب القذافي كانوا «ثواراً» بامتياز، وكان هذا اللفظ يشمل المدنيين والعسكريين أمثال مصطفى عبد الجليل والشيخ الصادق الغرياني وعبد الفتاح يونس وخليفة حفتر وونيس بوخمادة وسالم جحا وأحمد المسماري والمهدي زيو وعلي حدّوث وإدريس المسماري وسلوى بو قعيقيص وفريق عريض من المدنيين والعسكرين والآلاف من الشباب الذين أبوا إلا أن يكونوا «ثواراً» ضد دولة القذافي التي ثار كل هؤلاء ضدها.

وبجانب كل هؤلاء كانت مجموعة من الكتّاب الثوار بدأت التبشير بالثورة والتحريض عليها قبل انطلاقها بأسابيع وواكبتها خلال انبعاثها وكانوا يكتبون بأسمائهم الحقيقية وصورهم حتى قبل أن تسقط كتيبة الفضيل تحت ضربات الثوار ورجال الصاعقة.

وكان هؤلاء الكتاب أول من وُضعوا في السجون قبيل وأثناء الثورة مثل جلال الكوافي وعاطف الأطرش والحبيب الأمين وغيرهم.. ومنهم من أفلت من قبضة الأمن وواصل الكتابة محرضاً على ثورة الشعب حتى تحررت ليبيا بأكملها وكانت آلة الإعدام تنتظرهم وأسماؤهم تملأ قوائم الموعودين بالموت! ولو رجعنا إلى منشورات تلك الأيام «وهي موثقة جميعها» لرأينا من كان يقاتل بقلمه متحدياً الموت ومن كان يرفع الرايات الخضر والبيض والسود على قلمه، ومن كان ينتظر أي الكفتين سترجح! وبالتأكيد لم نكن نتوقع نجاح الثورة بالشكل الذي انتهت به عليه، ولكن الأمر كان عظيماً ويستحق المحاولة والمخاطرة. فكل من ذكرت هم ثوارٌ.. فإن تبدلت أفكار بعضهم فقد كانوا يوماً ما ثواراً وتبدلوا!.

كان الشباب المدنيون ثوارا والرجال العسكريون ثوارا، فكيف انقلبت المفاهيم وكيف أصبح الجنود أزلاماً ومجرمين وكيف أصبح الثوار ميليشيات وإرهابيين؟.. إنها الفتنة الكبيرة.. الفتنة المدروسة من جميع جوانبها والمخطط لها بعقول لا تعرف إلا الشقاق والعداوة والحرب.. رفاق الأمس أعداء اليوم.. الثوري يقاتل الثوري والأخ يقاتل أخاه. فمن فعل بنا هذا؟ من جعل الدم هو الغالب؟ ومن دمر بلادنا واقتصادها ومزق لُحمتها ونسيجها، وحتى إنسانيتها، في كثير من المواقع؟!.

ولأنني سأبدأ من «أَ إِ أُ: أسد» ــ «بَ بِ بُ: بقرة»، فلا بد إذن أن أبدأ من تعريف كلمة «ثائر» و«ثوري» في قاموس اللغة العربية. فـ «الثائر»: ويُجمع على «ثائرون» و«ثوار» هو من يثور على ما حل به من غبن. وثار الشعب بالحاكم المستبد: انتفض ووثب عليه ليحدث ثورة. ومصطلح «الثوار» طبعاً لا علاقة له بمصطلح «الميليشيا» و«العصابة».. كما أننا لا نساوي بين الثائر وبين أعضاء التنظيمات المتطرفة، فالثائر لم يكن يوماً داعشياً، والداعشي لم يكن يوماً من الثوار!.

فإن تعادَى ثائران فلا يحق لأحدهما أن يلغي الآخر ولا أن يحقره كما لا يقتصر مفهوم «الثائر» و«الثورة» على جماعة بعينها أو مدينة أو إقليم بعينه.. فمدينة مثل بنغازي مثلاً تجد بها ثواراً مدنيين يقاتلون في صوف الجيش وآخرين يقاتلون الجيش وفريقاً ثالثاً يلتزم الحياد «وكانوا جميعهم يقاتلون في خندقٍ واحد في حربهم ضد كتائب القذافي»، أما مسألة الصواب والخطأ فهي ليست موضوع الحديث لأنها تربك برنامج المصالحة الوطنية، ولاقتصار المقال على تأصيل مفهوم الثائر وغير الثائر لا مفهوم المحق والمخطئ.

فالثائر قد يكون على كل الصواب وقد يجانبه كل الصواب!. ولكن سيكون من العبث والغباء الخلط بين مفهوميّ «الثائر» و«الإرهابي» سواء بتعمد أو بجهل أو حتى من باب التلفظ بالكلمات دون تمييز أو تفكير.
السلام لا يتحقق بالبندقية بقدر ما يتحقق بالجلوس معاً وبالتفاوض والتفاهم وإعلاء مصلحة الوطن.

نحن لا نريد لليبيا أن تنجر إلى حرب أهلية يذبح فيها الليبيون وتقودها شياطين قد لا نعلم أبداً ما إذا هم شياطين الإنس أم شياطين الجن! وأنا هنا لا أتحدث عن حرب تدور في بنغازي وضواحيها، فهي جزء فقط من المشكلة والحل، وإنما أتحدث عن تجمعات عسكرية تملأ أرض ليبيا شرقاً وغرباً وجنوباً ولن يكون الحسم العسكري ممكناً إلا بإسالة أنهار من دماء الشعب أو من المجموعات المتحاربة... وفي النهاية الخاسر الوحيد هو الوطن.
فبعد كل هذه المعارك وهذه الانقسامات، على الليبيين أن يؤسسوا دولتهم دون تردد ودون حسابات سلبية، فلدينا الثوار العسكريون الأبطال ولدينا الثوار المدنيون المخلصون ولدينا أيضاً الكفاءات السياسية والاقتصادية والعلمية المؤهلة، وبالجميع فقط يمكن تأسيس ليبيا القوية الديمقراطية الغنية الحرة.

أرجو أن نفهم بعضنا، ولا نضطر إلى استئناف درس «المطالعة» بدءاً من: «تَ تِ تُ: تفاحة» ،«ثَ ثِ ثُ: ثور»!

أنا مع تأسيس دولة حديثة، دولة مؤسسات وجيش وشرطة وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية فاعلة ومنورة.. ولكن لا يحق لأحد أن يقصي الآخرين، ولا يجب أن نضع الثوار في سلة واحدة مع فئات أو جماعات أخرى لا تمثلهم ولا يمثلونها.

فـليس الثائر إرهابياً.. كما لا يمكن أن يكون الإرهابي ثائراً! ؛ فثوارنا هم صفوة القادة العسكريين والمدنيين والجند والطلبة والموظفين والعمال وحتى العاطلين عن العمل والأمهات العظيمات والأخوات اللواتي ساهمن في الثورة حتى النصر.

فلماذا نصرّ على استعداء الليبي على الليبي، وعلى التمسك بأوصاف «الجيفة» و«الأزلام» و«المرتد» و«المجرم» و«الصحوات» و«الكلاب»!؟.. فالمقتول من الطرفين هو ليبي عربي مسلم ولديه أهل وأقارب وأصدقاء، ولا بد أن نراعي مشاعر بعضنا وأن نقدر موتانا أياً كان الفريق الذي يقاتلون إلى جانبه.

بالتأكيد ليبيا وقعت تحت تأثير الفتنة، ولكن دورنا ككتاب ومثقفين هو محاربة الفتنة ودفع الفئات المتنازعة دفعاً نحو الطاولة المستديرة لنستوعب بعضنا ونتفاهم على الوطن وليس ضده. أنا مع المصالحة الوطنية الشاملة العادلة، حيث لا منتصر ولا مهزوم، ولطالما كررت هذا المطلب في كتاباتي منذ العام 2011.

فمعمر انتقل إلى الآخرة، والثورة انتصرت وإن انتكست.. أما الليبيون فإنهم أخوة لا فرق بين مدني وعسكري، كما لا فرق بين محبي معمر ومبغضيه، فليبيا التي ننشدها تحاسب الأفعال لا المشاعر!!.
ليبيا هي الهدف، والتفاوض هو الوسيلة السهلة المتاحة، أما الحرب فإنها لن تنتهي إلا بعد أن تنتهي معها الدولة والوطن والكثير من الآمال والأحلام. فاليوم لا بد أن نزرع الثقة بيننا وأن نلقي بعيداً عنا قفازاتنا إلى غير رجعة.

أرجو أن نفهم بعضنا، ولا نضطر إلى استئناف درس «المطالعة» بدءاً من: «تَ تِ تُ: تفاحة» ،«ثَ ثِ ثُ: ثور»!!.