Atwasat

ومن يعزيني

سعاد الوحيدي الأحد 29 يناير 2017, 04:14 مساء
سعاد الوحيدي

ما كنت أدري أن ما أتاحه له القدر من ذلك العمر الطفولي الذي اكتسبه في الزمن الضائع، لن يتجاوز الست سنوات. كنت قد ودعت إدريس المسماري في الخامس عشر من فبراير ٢٠١١، كفنته، وبكيته ودفنته (رغم المسافات التي كانت تباعد بيننا حينها). وكنت على يقين وأنا أتابعه يختفي على الأعناق أمام المحكمة في بنغازي، بأننا لن نراه ثانية. وبالفعل طال اختفاؤه.... ثم عرفت أنه لا زال على قيد الحياة بعد رحلة غير قصيرة من المواجهة مع سجانه السابق. عاد إدريس المسماري في قلبي إلى الحياة، ُبعث من رماد العصف والعنف وضراوة المواجهة. عاد جبارا قويا (رغم جسده المكسور الجناح)، ليهزم أعتى سلطان. ثم في سيارة متهالكة، كانت ترتعش تحت تهديد رياح البحر، وخطر الطريق الساحلي أيام البراءة الأولى، وصل مع صديق عمره، ورفيق الزنزانة، رضا بن موسى إلى طرابلس، ليتوجه مباشرة إلى مبنى "مؤسسة الصحافة" الرمز الذي حاول السلطان عبره "استعباد" الصحافة.

تبرعت لهما موظفة كانت تداوم في ذلك المبنى المهجور، الذي سكنته الغربان وافترش أروقته الغبار (تحتاج لتكريم خاص هذه البطلة الوطنية المتحركة من وراء ستار) مبلغ ألفي دينار؛ للبدء بأعمال التنظيف وشراء ما يتيسر.... المبلغ الذي كان كافيا لإدريس المسماري لينطلق بهذا "المنبر" في سرعة خارقة؛ حيث لم ينتظر قيام الدولة، ولا صراعات الساسة والسياسة. أراد له أن يتحول إلى مؤسسة "لدعم وتشجيع الصحافة"؛ إيمانا منه بأن الكلمة الحرة وحدها ما يمكن أن تَخَلَّق شعبا حرا.

بعد ذلك حصل رضا بن موسى على "قرض" من الجهة المصرفية التي يشتغل بها، لترتيب أوضاع العمل، والمشتغلين في القطاع. في تلك الظروف الصعبة مع بدايات الثورة حقق المسماري أهم إنجازات الدفع بحرية الصحافة؛ (كان المشتغلون بالمؤسسة يتلقون رواتبهم في انتظام عجائبي، وعكس كل التيار)، ليورق بسرعة في فضاء تعاسة حرية الكلمة في ليبيا أكثر من صحيفة؛ ...(حرة). الأهم في ذلك أنه مكٓن لأول مرة في تاريخ العالم بأسره، خمس سيدات من ترؤس أهم خمس صحف في البلاد... خمس، بما في ذلك صحيفة الجنوب الليبي المهمش عبر الزمن.

قاد إدريس المسماري حراكا غير مسبوق للتبشير بحرية الإعلام؛ وكانت آخر أعماله قبل أن يُلقى به إلى خارج دائرة الفعل (إن لم نقل خارج الأبواب) كما يحدث في كل البلدان الجاحدة أعمالَ أبطالها، تكريم رائدات الصحافة من النساء ....

هذا هو إدريس الذي قضى ربع عمره في سجون القذافي، وخرج منها رغم العصف في عنفوان الأحرار حرا مسكونا بالحرية، محلقا في فضاء الكون كطائر مجبول من ريح ودفء وصبر على اللامتناهي. وأخذ يحلق دون توقف، وقد تحرر من عجز الجسد، وقيود المألوف عبر الفيافي.... هكذا عاش صاعقا في نقده، حنونا في دعمه، صادقا مع نفسه، وقد فتح قلبه وبيته لصعاليك الكون؛ ومشردي الحزن، وكل المتسكعين على مرافيء الأرض.

كانت يده لا تخلو أبدا من كتاب؛ وكان يلتهم الصفحات في سرعة عبقرية. وهو وإن لم يترك (مصلوبا على الورق)، الكثير مما سكن قلبه المجروح بألف طعنة؛ لكنه ترك هذا الحب الذي وزعه حيث ما مرَّ.... بالمجان.