Atwasat

قيدُ الرئيس وحريّتُه

نورالدين خليفة النمر الأحد 22 يناير 2017, 09:41 صباحا
نورالدين خليفة النمر

بعد الانتهاء من مشاركتي في حصّته الفلسفية بالإذاعة التونسية، وبمقهى في الجوارـ أبريل 2014 ــ امتدّ الحديث بيني وبين أستاذ الفلسفة المرموق التونسي حمادي بن جاء بالله حول مآلات الفلسفة في بلدان ثوراث الربيع العربي، فأرجعت جذور المصير المحزن الذي يحيق بها في ليبيا، التي يعصف بها اليوم الانقسام والاحتراب، إلى دكتاتور ليبيا الأوتقراطي الذي لم يكتف عند توليه السلطة عام 1969 بتمويت روح الفلسفة وتزييف جوهرها، بل منع تداول حتى اسمها المعروفة به في العالم منذ زمن اليونان ومعناه محبة الحكمة، مغيرا إياه إلى اسم "التفسير" ذي الهدف البغيض وهو تفسير ما ادّعاه بنظريته الخرقاء التي حواها كتيبه الأخضر.

د. جاء بالله أستاذ المنهج وفلسفة العلم ، مازال حتى اليوم مصدوماً بسؤال دهشة الفلسفة منذ أن كان يعمل في عام 1973 مراسلاً إذاعيا مغطيّاً حفلة افتتاح المركز الثقافي التونسي-الليبي في العاصمة تونس ، مستغرباً أمر دكتاتور ليبيا مضيّفيه التوانسة بسحب كل ترجمات كتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر من العارضات الزجاجية في المدخل؟ ممتنعاً إن لم يفعلوا ذلك عن افتتاح المركز الثقافي الذي أنفق عليه بسخاء لترويج دعايته العروبية! في تونس المجاورة لليبيا وهو المسعى الذي توجّه إعلان جربة الوحدوي الذي عاش يوماً واحداً في 12 يناير 1974.

لقد عايشت حدث ماسمّي بالثورة الثقافية في ليبيا عام 1973 طالباً في المدرسة الثانوية أيقظت بدايات نباهتي بعضٌ من كتابات سارتر، ولم أتبيّن جوهرية الأسباب التي انعرضت وقتها لتبرير دافع الدكتاتور حاكم ليبيا الذي للتوّ قام بانقلابه العسكري على الملكية الدستورية، إلى إلقاء كتب سارتر وفلسفته الوجودية رفقة كتب الماركسية في محرقة الثورة الثقافية.

ريكاردو هوسمان في مقاله "الزعامة الأصيلة" المترجم عن" بروجيكت سينديكيت" يشير إلى سارتر وموضوعته في الحرية و هو يعرض إحدى القراءات المحتملة لتفسير فوز دونالد ترُمب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بذهابها: إلى أن الناخبين في هذه الأيام لا يبالون كثيرا بمسؤولية السياسي بقدر اهتمامهم بـمصداقيته. والدليل على ذلك ترحيب الناخبين بتعليقات ترُمب المستهترة بشأن قضايا حساسة لأنه كان يصدق مع نفسه. وهو يحدّث الناس بما يدور في ذهنه حقا بينما بدأ الساسة الاحترافيون المنافسون له في مظهر زائف متكلف عندما حاولوا دائما قول الشيء "المناسب".

أليس مايدعوه المراقبون اليوم بالتهريج واصفين السلوك السياسي للرئيس المنتخب دونالد ترُمب، هو نفس التهريج الذي وسم به المجتمع الدولي ــ بحسبان الفارق بين ليبيا وأميركا ــ السلوك السياسي لدكتاتور ليبيا السابق طوال الـ 42 سنة التي حكم فيها البلاد منفرداً بتقرير مصيرها، موصلا إياها إلى ماهي عليه اليوم من فوضى مجتمعية معمّمة تمس مخاطرها الإقليمين المغاربي والأفريقي ممتدة إلى دول جنوب أوروبا.

بما أن الوجود في فلسفة سارتر يسبق الماهية، فإن الإنسان يوجد أولاً، ثم يصنع وجوده، ومصيره بيده تبعاً لأفعاله التي يقوم بها، وسلوكه الذي ينتهجه في حياته؛ وبذا يكون مسؤولاً مسؤولية كاملة عن اختياره، ليس في دائرة فرديته، بل في دائرة الناس الذين يطبع سلوكه واختياره حياتهم بل مصيرهم؛ كون قراره الذي اختاره لنفسه قد اختاره لكل الناس، فهو إذ يؤكد ذاته باختياره الحرّ، فإنه يرسم تصوّره للإنسان أو الآخر كما يريده أن يكون عليه، مقرّراً في الوقت نفسه قيمة مايختاره له من معنى ومصير.

وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا وأستاذ الاقتصاد الحالي في أميركا ريكاردو هوسمان يطرح في هذه المعضلة التي يمثلها سلوك ترُمب سؤاله: هل يجب أن تنطوي المصداقية بالضرورة على الاستهتار؟ أو من ناحية أخرى، هل من المحتمل حسب منظور"الصواب السياسي" أن يكون سلوك السياسي ضربا من ضروب الاستهتار، إلى الحد الذي يجعله يتجنب القضايا الصعبة ويركز على ما يسهل تبريره بدلا من التركيز على ما هو صواب؟
الأسئلة القلقة المُبثّة في دراسة بول ستار في" The American Prospect magazine" والمُثارة اليوم في الدوائر السياسية الأميركية والعالمية، هل ترمب حقا سيقوم بتغيير الأمريكيين؟ على الأقل الأغلبية الذين منحوه أصواتهم للفوز؟. بالتأمل في قصة فوز ترمب ،يمكن أن نرجعها إلى جذورها العميقة باستخدامه ورقة القومية "بالتركيز على أمريكا" والتي تجلت فى الشعارين الذين تبنتهما حملة ترمب وهما "أمريكا أولا"، و"جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، واستخدام كل ذلك كغلاف شعبوي مؤرب أو مغربن، خلال مهاجمة ترمب لمن يرى أنهم يتآمرون على البلاد ويرغبون بإسقاطها. وبقدر ماكانت صفقة ترُمب هذه رابحة للغاية فإنها كانت رؤية مظلمة مثيرة للانقسام. فاليوم يمكن القول إن الأمريكيين يشهدون واحدا من أكثر المنعطفات والتحولات فى تاريخ السياسة القومية الأمريكية والسياسات بشكل عام. وأنه من الممكن أن تطرأ تغيرات على قواعد العمل الأساسية بالحكومة الأمريكية والمؤسسات الخاصة وكذا دور الولايات المتحدة فى العالم بشكل عام. فالكُل يتوقع أن يكون تأثير ترمب عميقا وواضحا على الولايات المتحدة.

في تصور جان بول سارتر تنطرح المصداقية في الالتزام، كونه الرفيق الحتمي للحرية والمسؤولية ويترتب على الفاعل في هذه الحالة مواجهة حالة من القلق والألم؟ فالمسؤولية غالباً ما تثير مشاعر القلق في صحة وسلامة القرار الذي يمسّ به مختاره الحرّ مصائر الناس.

هذه الأسئلة تضعنا من جديد في قلب الإشكال الذي بعتثه فلسفة سارتر في وجدانات جيلين عاشا قلق الحرية والديمقراطية في تقاطعهما مع إكراهات الدكتاتوريات والشموليات في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية.

مايطمئن إلى حدٍّ ما القلقين أن الرئيس الذي سيجلس يوم 20 يناير 2017 في البيت الأبيض الأميركي، أيّاً كانت أفكاره أو ميوله، لن يكون دكتاتوراً كالنسخة العالمثالثية المتهوّرة الممثلة في حاكم ليبيا الذي أصدر أوامره عام 1973بمنع تداول فلسفة سارتر تحوطاً من كوابح المسؤولية التي ستكون عبأً عليه وهو يختار بحرية منفلتة ومستهترة أن يقرر مصائر التعاسة للشعب الذي يحكمه. فصُنع القرار في الولايات المتحدة يقرره الألوف من الخبراء والبحاثة الذين يعدّون الدراسات التي تصل إلى الأجهزة الحكومية العسكرية والمدنية، التي تنقحها في تقارير وخلاصات تعرض على الرئيس ليتخذ قراره بناءً على توجّهاها وتوجيهاتها الضمنية. إلى جانب الكابح الاستشاري لأيّ قرار اعتباطي أو متسرّع يمكن أن يتخذه الرئيس أو أحد وزرائه،هناك الكونغرس الذي حتى بأغلبيته الجمهورية لن يكون عاملاً مريحاً في طريق قرارات الرئيس واختياراته، وهناك المحكمة العليا الأمريكية، والصحافة والإعلام المتربص بترُمب مترشحاً ورئيساً، ليس هؤلاء فقط بل أيضاً رؤساء الأجهزة الأمنية الذين ولاهم الرئيس لإدارتها كمدير جهاز المخابرات المركزية "السي أي أيه" جون برينان الذي نبّه الرئيس ترُمب إلى أن "الكلام والتغريد" على تويتر ليسا خيارين سليمين بالنسبة له، فكلامه أو ردوده ، ينبغي أن تُفهم على أن تأثيراتها وعواقبها قد تكون وخيمة على الولايات المتحدة، وأن العفوية والتلقائية لا تحميان مصالح الأمن الوطني.

الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، الذي ترجم في ستينيات القرن الـ 20 كتاب سارتر "الوجود والعدم" والذي ألقى به اختياره الوجودي أن يكون لقمة سائغة لقرار الثورة الثقافية الليبية عام 1973 بأن يُودع سجن الكويفية في مدينة بنغازي وهو يلّف في عنبر السجن منفصلاً عن رفاقه السجناء السياسيين الليبيين كان طوال الوقت يرّدد مصدوما جملة واحدة مُكرّرة: أنا ما الذي ألقى بي هنا؟!. ربما المصير نفسه سيحيق بالرئيس ترُمب في فترته الرئاسية القادمة وهو يلّف مكبوحاً، ومتذمرّاً، مُرّدداً السؤال ذاته بين ردهات وعنابر المقرّ الرئاسي الأمريكي البيت الأبيض.