Atwasat

قاتل بلا رائحة

نورالدين خليفة النمر الأحد 01 يناير 2017, 11:23 صباحا
نورالدين خليفة النمر

من الصعوبة بمكان لمقالة أن تحاصر بالكتابة عبر المقاربة بين الفلسفة، والسوسيولوجيا والأدب فوضى الإرهاب في خارطة حواس الجسد، وأن تصدر حُكماً في حاسّة من الحواس كالشّم، وسيلة أو وظيفة العسّاس، والشرطي، والمحقق الجنائي بل والسياسي لمحاولة دفع مخاطر الجريمة التي يُعدّ القتل ذروتها.

تفرّق اللغة الألمانية الرائحة ترمنولوجياً ووصفياً بكلمتين أصلية أو حافّة "Geruch" وتعبيرية أو كنائية "Duft" فعندما تريد مدح طهي أو طبيخ سيّدة ألمانية نفذت إلى حاسة شمّك طعومه ونُكهه، فتستعمل في وصفه إعجاباً ومديحاً كلمة "Duft" وفي العربية تعني تفوّح الطبيخ، وتطيّب وعبق، وإن أردت وصف خليط من روائح طيّبة وغير طيّبة أربكت حواسك، وربما أزعجتك وهي تصدر عن طارمات، وصناديق سمك في سوق شعبي فتستعمل تعبيراً عن ارتباك حواسك، وربما ضيقك من نفاذ الروائح كلمة "Geruch".

الذين قرأو رواية باتريك زوسكيند "العطر" قلما انتبهوا إلى عنوانها الفرعي المفارق "قصة قاتل"، وأن هذا القاتل الذي ولدته أمه سفاحاَ في مسمكة الرائحة بمعنى الـ"Geruch" وقطعت حبل سُرته بسكين تقطيع السمك، والتي ستعاقب على جريرتها بعد انكشاف أمر الوليد بحزّ عنقها بالمقصلة التي استحدثها الثورة الفرنسية ربما لعقاب الصبوات. هذاالوليد المُنكشف أمره في الرواية من قِبل المارّة صدفة من تحت أسراب الذباب وبين أحشاء ورؤوس الأسماك المقطّعة سيؤدى به مسار الكتابة وقدرها بأن يصير القاتل مكتشف العطر المثير والساحر من نعومة بشرة ضحاياه من البنات الناعمات والنساء البرجوزيات، رغم مُعجزه المُفارق أنه هو ذاته بلا رائحة وهو ما أعانه على أن ينفذ إلى ضحاياه دون أن يُحَس به، وينتهي من جريمته الدموية مضللاً حواس شمّ الحرّاس: الكلاب والعسس، جارّاً فرائسه لدوارقه ليطبخها مستخلصاً من جلدها العطر.

بالعكس من الفيلسوف ديكارت، الذي حكم على المخيّلة بالتهميش في فلسفته واعتبرها مصدرا للتشويش والخطأ، فإن "إيمانويل كنط" أعطاها أهميّة مختلفة تماما في فلسفته "الترنسندنتالية" فـالمخيّلة في رأيه لها موقع وسط بين الإدراك الإحساسي أو بتعبيره بالألمانية "الحساسية Sinnlichkeit" وبين الإدراك الفهمي أوالتعقّلي أو بتعبيره بالألمانية "الفاهمة Verstand"، وهذه الوساطة يصعب الإمساك بها في عملية التحويل من الحساسية إلى الفهم فالمخيّلة ليست مصدرا للمعرفة بقدر ما يمكن إعتبارها إطارا موّحدا لمصدري المعرّفة: الإدراك الحسي والفهم، وشرطا (قبليا) لوحدتهما فبفضلهما يحدث ويحصل التراكم المعرفي وتتوفر إمكانية إصدار الأحكام.

حكمي باستهلاكية، بل رأسمالية، أسواق أعياد الميلاد والامتناع عن ارتيادها لهذا السبب، لم يحُل بيني وبين انجذابي فقط للرائحة التي تُصدرها، أي الفوح والطيب والعبق بل الأريج، وغالباً ما اخترقت سوقها الماتع بضاحية المدينة حيث أعيش اليوم بغرض الاتجّاه إلى المقهى قاطعاً خيوط الزينات وروائح الطيب ونُكه النبيد الساخن والحلوى، مقتعداً كُرسياً في ركن ما متأملا عبر الزجاج بشجن شفيف عبور مباهج الناس تمرّ أمامي.

وصف الكاتب زوسكيند، قاتله بالوغد وقارن لاأخلاقيته وتعاليه واحتقاره بل كفره بالبشر، بأوغاد، نوابغ ارتبطوا بعنف الثورة الفرنسية الزمن الذي تدور فيه أحداث رواية "العطر" مثل سان جوست، وجوسف فوشيه، والمركيز دي ساد، وحتى نابليون بونابرت، إل أن ما يغايره عنهم أن عبقرية بطل "العطر" وطموحاته انحصرت في ميدان لايخلّف وراءه أثراً في التاريخ، إنه ملكوت الروائح الزائل.

في هذا العام 2016 الذي ستنقضي أيامه ولياليه بما له وما عليه مُتعاً وعذابات، مرّت ألمانيا بأحداث عنف وإرهاب نفذّها شباب أصولهم منّا، يعني "بلدياتنا" وهم قادمون من ملكوت العنفيات المجتمعية والسياسية ومن أتون المعتقديات والسلفيات التي بعضها إسلاموية متشددة والعديد من العدميات المشحونة بروائح الكُره والدم ،والرصاص والخراب وقد أقتدوا بدهّاس نيس من أصول تونسية لحويج بوهلال الذي نجح بدهس شاحنة بتمويت 130 شخصا، كانوا يتمتعون برفاهية الاحتفال فتبعه االمراهق الألماني ـ الإيراني علي داوود سنبلي، الذي حصد فيما يشبه دهس المُتع ببندقية مايقارب 10 ألمان كانوا يتلذذون بأطاييب الطعام في أحد مطاعم "ماكدونلدز" بميونخ، وفي (فورتسبورغ) أيضا حذا حذوه طالب لجوء أفغاني هجم بساطور على ركاب قطار ربما كان بعضهم يسافر لغرض التمتع بإجازته والتنزّه، فأصاب 5 أشخاص تبعه لاجئ سوري قتل لأجل القتل ذاته امرأة بسكين وأصاب آخرين، منتهين اليوم فيما جرى، جري الحبل على الجرار بواقعة الدهس بشاحنة التي اقترفها يوم 19 ديسمبر 2016 في أحد أسواق أعياد الميلاد ببرلين التونسي العشريني الشاب أنيس العماري.

الرائحة هوّية، والهوّية هي أيضا بمعنى ما رائحة، تلاعب الجاني أنيس العماري بأوراقها وبطاقاتها المزيّفة، في أن يتسلل من إيطاليا بطريقة غير مشروعة إلى إلى مدينة دورتموند حيث رصد تقرير جاء متأخراً احتفاظ الجاني بمفتاح مسجدٍ كان يبيت بداخله في تنقلّه وبصورة دورية بين منطقة الرور ومدينة برلين لتنفيذ مقتلته ثم نافذاً من مسرح جريمته بهدوء من برلين في الشرق بوسيلة القطار عابراً بأريحية الأراضي الهولندية مجتازاً الحدود الفرنسية غرباً، عابرها إلى الأراضي الإيطالية ليُكتشف بمحض الصدفة في محطة قطار بميلانو في إيطاليا، فتسقطه الشرطة صريعاً فجر الجمعة 23 ديسمبر 2016، بعدما أصاب شرطياً بسلاحه الناري الذي ظل رفيقه في رحلته الأوديسيوسية الموصوفة مثيلتها في إلياذة هوميروس.

يضرب القتل جذوره في رغبة الفرد امتلاك قوة مطلقة، فيتجاهل العالم والآخرين، على نحو ما فعل الجانيان دهّاس مدينة "نيس" لحويج بوهلال ومواطنه التونسي الذي دهس متعة وثقافة عيد الميلاد في برلين أنيس العماري حين أوصد قمرة القيادة على سائق الشاحنة مشهرا سكينه في وجهه ليقودها ولما لم يستجب إلى رغبته في نقطتها الأخيرة المرعبة أجهز عليه ليكمل مهمته بنفسه، ليدهس أناسا بلغ موتاهم الـ12 ومُصابوهم الـ 50 وفي تلك اللحظة وهو يدهسهم فإنه لا يراهم ، ولا يسمعهم. فشاغله هو نفسه حيث لا يرى غيره، ولذا، كان في وسعه الإقدام على كل هذا الشر.

الجامعي المغربي زهير الواسيني، الكاتب ومبرمج حوارات الإسلام في القناة التلفزية الإيطالية "الراي3" ربطتني به وشائج صداقة لثلاثة أيام وقد شاركنا في مؤتمر مصغّر حول الإسلام وصراع الحضارات على هامش حلقة بحث برمجتها جامعة أوسنابروك لعرض نتائج المشروع البيداغوجي الذي شاركتها فيه جامعة أنقرة التركية لتنفيذ مبادرة ولاية (سكسونيا السفلى) بإدراج لأول مرة مادة الدين الإسلامي في البرنامج المدرسي الألماني وفي مشرب بمدينة أوسنابروك ربيع عام 2002 ، حدثني أنه تقريبا أول من ألّف عن هذه الظاهرة الإرهابية المقيتة كتابا عنوانه "قتل المسلم" وصدر في 1998 كتبه تقريبا بالفرنسية، وتُرجم إلى الأسبانية مباشرة بعد أحداث سبتمبر 2001، وربما الإيطالية. موضوعة الكتاب تنصّب على صورة الإنسان العربي والمسلم في وسائل الإعلام الغربية عبر مجموعة من الأمثلة التي جسدت انحطاط هذه الصورة ورداءتها في المتخيل الغربي. صورة المتخيّل الرديئة تُحققها اليوم الرداءة البشرية الناتجة من ثقافتنا التي لست أدري ماذا أسميّها، فلن أسميها حتى لايصيبني ساطور أو فأس، أوطلقة من بندقية أو قذيفة من مدفع تقضي علي أنا المقضي علّي من زمان!