Atwasat

ديمقراطية فن الصفقة

نورالدين خليفة النمر الأحد 27 نوفمبر 2016, 11:34 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تعمّدت الصورة النخبوية المُسقطة على الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترُمب، استبعاد شخصية مؤلف الكتب من البيوغرافيا المقدمة عنه كسياسي ومترّشح غير مرغوب فيه نخبوياً في الحملة الانتخابية الأميركية الراهنة لعام 2016.

كـكاتب ليبي مهمّش تقريبا زميل مهنة للمؤلف ترُمب معزول عن توّلي منصب عام في بلده، ومنفي مجدّداً في المانيا بسبب احتراب أهلي معمم تأجج منذ خريف عام 2014 مع قوى دولية وإقليمية، أججت الولايات المتحدة الأميركية انسجاماً مع مصالحها المنافعية أُواره، لم ألحظ طوال متابعتي لمسار الـ5 أشهر من السباق الانتخابي أي عرض لكتاب من مكتبته الغزيرة التي تنبيء عن ثراء خبرته كقطب ثري من أقطاب العقارات، وداهية من دهاة التسويق نجح- حسب رأي أستاذ الاقتصاد وإدارة الأعمال بجامعة نيويورك "نورييل روبيني"ـ في استغلال روح العصر السياسية من خلال استرضاء الجمهوريين من الطبقة العاملة المُسمّين بـ"بطبقة الولايات الصدئة" أو بـ"ديمقراطيي" الرئيس السابق رونالد ريغان مضيفاً إليه وصفه له أيضاً البرغماتي الواقعي المهووس بفن عقد الصفقات، والتوصيف الثاني لم يأت من فراغ إذا ماتأملنا عناوين الكتب التي ألّفها"ترُمب" في مسار حياته المثابرة في مجال النجاحات والصفقات كـ:كتبه "فن النجاح،وكيف تصير غنياً،وكيف تفكّر مثل مليونير،وفن العودة بعد إفلاس،وفن الصفقة التجارية " وغيرها.

أضرّ المساق الذي سارت فيه الانتخابات الأميركية لعام 2016 بصورة الأحزاب وقوة تماسكها البنيوي في الديمقراطية التمثيلية

فكرة كتاب ترُمب" فن الصفقة" هي مدار مقالنا الثالث الذي نخصصّه حول نقاش مفهوم الديمقراطية الليبرالية في وجهها البرغماتي الواقعي أو الذرائعي الأميركي الذي تنقبّه او تقنّعه الرئيس المنتخب "دونالد ترُمب" مُكتسحاً صناديق الانتخابات بفوزه المتوّج والساحق.

الفلاسفة التنويريون كـ " روسو، وجون لوك، وهوبز " الذين أسسوا لنمط الديمقراطية التمثيلية أو النيابية أقاموه على قاعدة الصفقة أو بمعنى مخفف "العقد الاجتماعي" الذي يتنازل عبره أفراد المجتمع الطبيعي عن جزء من حقهم الفطري لصالح المجتمع المدني أو السياسي الذي حسب "جون لوك" دخله الأفراد لضمان حقوقهم المتساوية التي تمتعوا بها في ظل القانون الطبيعي. إلاّ أنّ غياب السلطة القادرة على ضبط حدود هذه الحقوق في المجتمع الطبيعي هدّد ممارستهم لها. مما دفع هؤلاء الأفراد لتكوين ذلك المجتمع السياسي-المدني ضمانا لهذه الحقوق ، بتخليهم عن حقهم في إدارة شؤونهم العامة لسلطة جديدة تأسست برضاهم والتزمت بصيانة حقوقهم الآساسية في الحياة والحرية والتملك.

أضرّ المساق الذي سارت فيه الانتخابات الأميركية لعام 2016 بصورة الأحزاب وقوة تماسكها البنيوي في الديمقراطية التمثيلية، ومسّها في جوهرها كمكوّن رئيسي للمجتمع المدني-السياسي في صيغته الديمقراطية.
من بين المُضرات انتشار مقولات تفسر فوز ترامب باعتباره معبرا عن "موجة تهدف للتغيير" أو باعتباره تجسيدا "للتمرد الشعبى على المؤسسة السياسية والحزبية"، أى النخب التى تتشكل من مسؤولي الحزب المنتخبين ورموزه فى المناصب الحساسة والتنفيذية؛ فضلا عن شبكة معقدة من المؤمنين به فى الإعلام ومراكز و خلايا التفكير، ودوائر المال والفكر والثقافة. الأمر الذي دفع السيناتور ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس إلى الحدّ من تنامي هذا اللغط بالتأكيد على أن الإفراط في القيام بأشياء مستجّدة إثر انتخابات، عادة مايكون أمراً خاطئاً، فهناك حد موجود أصلا هو صندوق الاقتراع. فالانتخابات المنتظمة كل سنتين منذ عام 1788 وهو ما آشاد به الكسيس دو توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أميركا" تحول دون الديمومة الأبدية لانعطاف أو شئ مستجّد ما في الولايات المتحدة الأميركية.

لقد تكهّن "نورييل روبيني" بالقوى الكابحة لاندفاعة "ترُمب"الرديكالية والشعبوية التي لوّح بها في تكتيكاته الانتخابية قبل الفوز بالرئاسة وأبرزها "الكونجرس" الذي سيدفع به بشكل أكبر في اتجاه الوسط ، من جراء اضطراره إلى التعامل معه لتمرير أي تشريع تقترحه حكومته المقبلة.

لقد نبهّتُ في إدراج لي على صفحتي في "الفيس بوك" موجهّي السياسات في الدول العربية ــ إن وُجدوا هم والسياسات ــ إلى أن يسددوا بصائرهم النافذة إلى متابعة تمظهرات إعادة بنينة الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي اللذين أظهرتهما الميديا الانتخابية عبر المقابلات والتصريحات واستطلاعات الرأي والمقالات إبّان أشهر حملة الانتخابات مصدوعين مقسومين والتأمل في إعادة الانبناء كما ستظهر في بنية الكونغرس المكان الذي تُقرر فيه السياسات الداخلية والخارجية والدفاعية.

بما أن البيروقراطيّة ليست ديمقراطيّة كون البيروقراطيين غير مسؤولين أمام المواطنين المتأثرين بقراراتهم فإن الفرص تتضاءل كلّية أمام عقد الصفقات

إن عودة الأغلبية الساحقة من أعضاء الكونجرس لمقاعدها، أى «نخبة» الجمهوريين والديمقراطيين معا. أظهرت أن انتخابات الكونجرس الموازية لانتخابات الرئيس تتم وفق منطق مخا لف تماما لمنطق انتخابات الرئاسة. ففى انتخابات الكونجرس التى كان التنافس فيها على كل مقاعد مجلس النواب، والثلث من مقاعد مجلس الشيوخ، عاد الجمهوريون للأغلبية التى احتلوها قبل إجراء الانتخابات. وهو ما يعنى أن الناخب لم يبدّل النخبة البرلمانية ولا اختار غيرها، وإن افتراض استمرار حيازة الحزب الجمهوري للأغلبية، كونه الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس الفائز، هو الآخر ليس دقيقاً. فقد أظهرت النتائج أن الحزب الجمهوري احتفظ بالأغلبية في مجلس الشيوخ، إلا أنّه خسر إزاء النخبة الحزبية الممثلة في الديمقراطيين مقعدين، وفي مجلس النواب عاد الجمهوريون للأغلبية، ولكنها انحسرت حيث زاد عدد مقاعد الديمقراطيين.

السوسيولوجي الألماني الشهير "ماكس فيبر1864 ـ 1920" وهو يلاحظ نموّ بيروقراطية جهاز الدولة، وتفاقم مستوى الأوليغارشيّة ضمن المنظمات السياسيّة، وهو المآل الذي كان سيفاقمه فوز المرشحة عن الحزب الديمقراطي"هيلاري كلينتون" الذي أعاقته نتيجة صندوق الانتخابات يوم9 نوفمبر . 2016 برئاسة ديمقرطية ثالثة، نبه إلى أن وضع البيروقراطيّة تحت السيطرة هو أحد أهم المسائل التي تواجه السياسة في المجتمعات الحديثة، واعتبر أن البرلمان القوي وحده هو الأسلوب الناجح لحلّ هذه المعضلة.

دون ذلك، تواجه الديمقراطيّة كما كان الحال في ألمانيا إثر خروج بيسمارك من مستشاريّة الرايخ "الفايمارية" Weimarer Republik عام 1890 وتركه مصيرالحُكم بيد الموظفين. ماكس فيبر الذي أكّد على عموميّة مشكلة الهيمنة البيروقراطيّة، التي لا سبيل لتجاوزها إلا بتحديد امتداد البيروقراطيّة، حيث إن تجاوز الدولة، ببساطة، مستحيل. وبما أن البيروقراطيّة ليست ديمقراطيّة كون البيروقراطيين غير مسؤولين أمام المواطنين المتأثرين بقراراتهم، فإن الفرص تتضاءل كلّية أمام عقد الصفقات. أو بتعبير مخفف "العقود أو التعاقدات".المقال النابه للكاتب الأميركي"إيلي ليك" المنشور في موقع" Bloomberg " يكشف هذه السمة البارعة للرئيس القادم "دونالد ترُمب" في توحيد "المستنقع المنقسم"الذي وعد في دعايته بتجفيفه.