Atwasat

دستوبيا -الانتخابات-.. المكان الذي نكرهه

نورالدين خليفة النمر الأحد 20 نوفمبر 2016, 10:22 صباحا
نورالدين خليفة النمر

انصبّت ردود الفعل الفورية على فوزدونالد ترُمب بالرئاسة الذي ماكان متوقعاً،ولا مرغوباً فيه من الجميع: في حشره الولايات المتحدة الأمريكية في مرآب "المكان الخبيث" أو الفاسد "Dystopia" وهو المكان ــ المضادّ لـ "اليوتوبياUtopia" التي تعني باليونانية القديمة: "اللا ــ مكان أو المكان غير المحدّد بالمعايير السائدة، الموضع المثالي الذي رمز له مخيالياً وفلسفيا في الفكر النهضوي-التنويري بالجزيرة "إطلنتس" المكان المرغوب فيه الذي نظّرت له الكتابات الفلسفية لعدد من المفكرين والفلاسفة من توماس مور، وفرانسيس بيكون حتى ألدوس هاكسلي في "عالمه الجديد الشجاع".

ساجلت الأطروحات الفكرية النقدية "اليوتوبيات" معتبرتها فرضيةُ لـ"طوباويين خياليين" تقترح فردوساً منشوداً، مظهرة نقيضه بمقترح سلبي مضاد له تمثّل في فكر «الدستوبيا» أي"مجموعة الأفكار النقدية المناهضة لليوتوبيا" المؤسسة على فكرة"المعاناة" نقطة البداية، في الخط النقدي المناقض الممتد من القديس أغسطين إلى أورويل عبر ديستويفسكي ونيتشه وفرويد. الخطاب الذي أُخضع عبر الأسلوب الجدلي تفنيده لليوتوبيا وتخييلها، للمساءلة في ثلاثة من مفاهيمه: اليوتوبيا والإيديولوجيا، اليوتوبيا والعنف، اليوتوبيا والكليّانية أو الشمولية.

لن نُثقل القارئ المتوجّه إليه المقال بأسماء المفكرين المعاصرين وإسهاماتهم في تفكيك هذه الثنائيات مكتفين بالإشارة إلى الخلاصة السوسيولوجية التي أظهرتها الكتابة المخيالية المحوصلة لجوهر الدستوبيات بوصفها مجتمعات متجردة من الإنسانية، تعصف بها الحكومات الشمولية والكوارث البيئية وغيرها من الخصائص المرتبطة في المجتمع بانحطاط كارثي، والتنويه على توزّع عناصر الديستوبيا في قوس يضّم، إلى جانب القضايا السياسية، القضايا الاقتصادية وحتى البيئية.

التيار المجتمعي الانتخابي الموصوف من المرشحة الديمقراطية الخاسرة في الانتخابات الرئاسية هيلاري كلينتون بـ"ثلة من البؤساء" أوكل قيادته لـ"دونالد ترُمب" رجل الأعمال الذي وصفه (نورييل روبيني) بفنان عقد الصفقات، الأقرب إلى"البرغماتية" الواقعية من كونه إيديولوجيا ضيق الأفق. اختياره أن يخوض الانتخابات مرشحاً شعبوياً هو مجرد تكتيك انتهازي لا يعكس بالضرورة معتقدات راسخة. وهو الأمر الذي يلجئنا إلى دمج ثالوث الثنائيات المفهومية السالفة في مركّب واحد هو"اليوتوبيا والعنف" وتحوّلاته المتمظهرة في" دستوبيا" الشعبوية المنافعية أو الذرائعية.

الظاهرة أو الحركة الشعبوية غالبا مالاصقت العملية الديموقراطية

"الشعبوية populism" صيغة محدثة منحوتة من كلمة شعب، وتعني دلالاتها في السياسة والمجتمع أنماط التسييس، والديماغوجية، والتطرّفات، وهي نزعة تتّلبس الحركات والمحاولات المنتهجة من طرف السياسيين الجامحين لحشد الشعب أو بالأحرى الجماهير وتجييشها في مواجهة نظم الحكم التي يرونها فاسدة، ومنكفئة لخدمة منفعياتها الأنانية دون مصالح العامة من الناس.

الباحثة (كريستا ديويكس) في تعريفها لـ"الشعبويّة" تشير إلى مفارقة تاريخية لافتة وهي أن الظاهرة أو الحركة الشعبوية غالبا مالاصقت العملية الديموقراطية، ومن هنا تشدّيدها على أن ظهور هذه الحركات هو المؤشر الحقيقي لوجود الخلل في العملية الديموقراطية ذاتها! بينما يستبعد يان ــ فيرنر موللر في تعريفه لـ"الشعبوية" أن تكون شأناً يخص فئات أو طبقات اجتماعية دون غيرها، أو مجرّد مسألة «حساسية» ينفرد بها، دون غيرهم، الذين أصابتهم معطيات "العولمة" بالخسارة المباشرة وكانت السبب في قلقهم وخشيتهم من المستقبل وما يخبئه. إن الشعبوية مذهب في السياسة يرى أصحابه أن نخباً منحرفة، فاسدة وطفيلية، تتصدى على الدوام لشعب متجانس وواحد، طاهر أخلاقياً، وليس بين النخب وبين الشعب قاسم مشترك. وهو ماتبرزه أسماء المنظمات الشعبوية شاهداً على مساواتها بين "الشعب العامّي" وبين "الشعب الحقيقي".

الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما الذي أزعجتني لـ 8 سنوات سياسته الخارجية المنكفئة، والمتردّدة والمتواطئة، التي مسّت بلدي بالحيف والضرر، تدهشني دائما بلاغياته النافذة في التوصيف في إقراره إلى ماذهبت إليه "كريستا ديويكس" من أن الممارسة الديمقراطية عموماً والممارسة الأمريكية بصورتها المفارقة والمحيرة والمشخصنة بل الفظّة التي أظهرها مسار الانتخابات الأخيرة، مثلها كأي شأن إنساني، تبقى غير كاملة وأحياناً بطيئة محبطة، وغامضة. وما ذهب إليه يان- فيرنر موللر في ربطه بين مسار العولمة المنحرف، وتلاعب الشعبويات السياسية بمشاعر الإحباط الطافحة عنه في إنتاج رؤية عاميّة عن حقيقة النخب التي تعيش حسب قواعد مختلفة ولاتدفع الضرائب وتجمع الثروات وهو ما يعمّم زيادة الفروقات الاجتماعية، تمثل خليطاً متفجّراً يزيد الوعي بوجودها ووضوحها مجرّد امتلاك شخص لهاتف محمول يتيح له البحث عن الحقائق.

في مقالي المنشور في بوابة الوسط "عالمنا وجغرافيته الأورويلية" في 23 مايو 2015 أوردت رأيين لكاتبين عاشا ردحا من عمريهما تحت وطأة نظامين شموليين وأيديولوجيين هما التشيكي "ميلان كونديرا" والبلغاري" تزيفيتان تودوروف" الأكثر شهرة في العالم في الكتابة عن "دستوبية عالمنا" في الثنائية المتعلّقة بالحرية والالتزام، أوالديمقراطية والشمولية، المعروضة في النصين المخياليين "1984" لكاتبه جورج أوريل، و"عالم جديد شجاع" لـالدوس هاكسلي. كونديرا حمّل المخيّلة الدستوبية المسؤولية عن الاختصار الكبير للواقع إلى مظهره السياسي المحض، واختصار هذا المظهر السياسي في ماهو سلبي فيه على نحو نموذجي، وتودوروف وصف هذا الاختصار بأنه خلط بين الواقعة والقيمة، بما لايتيح أخذ الخصائص الإنسانية الصرفة لعالمنا بعين الاعتبار.. في آخر النصوص الدستوبية يكتب الأميركي "بول أوستر" الذي يعيش اليوم في مدينة "نيويورك" في روايته "في بلاد الأشياء الأخيرة"عن "حكومة" دستوبية" تولّت السلطة حالياً تبني سوراً حمايةً ضد احتمال الحرب والتهديد بغزو كان يتفاقم مؤخراً.. الحكومات هنا تأتي وترحل سريعاً، وغالباً مايكون من الصعب التأقلم مع التغييرات ". هل أوستر يكتب في نهاية ثمانينيات القرن الـ20 منبئاً عن الجدار الذي سيبنيه ترُمب بين الولايات المتحدة الأميركية وبلاد المكسيك ؟!.