Atwasat

الإقناع والإخضاع

نورالدين خليفة النمر الأحد 30 أكتوبر 2016, 10:07 صباحا
نورالدين خليفة النمر

السؤال المطروح دائما في الأزمات والتمزّقات المجتمعية هو كيف نقونن العنف الملازم للطبيعة البشرية، حتى لايتحوّل بانفكاكه عن كلّ المبرارت إلى قسوة.. الحدّ الأدنى المفترض من شروط امتصاص العنف المجتمعي لما بعد الصراعات قيام العملية السياسية الديمقراطية الشفّافة بديلاً عن سابقتها الأوليغارشية ،أو الدكتاتورية، والولوج في مسار "التمثيلية" أو الديمقراطية الكفؤة التي تقوم الأحزاب فيها بترتيب التنافس السياسي بين القوى المجتمعية، لكونها كما يرى عالم الاقتصاد والسياسة "جوزف شومبتيرSchumpeter ‏1833 ـ 1950" الأطر الممثلة لإرادة الجماهير وتعويض عجزها في حال تركها وحدها بالتصرّف بطريقة عنفيّة أو دموية. وهو ما يحدث غالباً وبالذات فيما بعد التغييرات الحِدّية كالانتفاضات، والتمرّدات والثورات الشعبية.

في ليبيا مابعد ثورة 17 فبراير 2011 حدث العكس، إذ فتّحت العملية السياسية الهشة بمكوّناتها المصطنعة، وأساليبها المبتذلة المجدّدة مسارات العنف والفوضى كما يصير عادةً في المجتمعات المتضررة والمأزومة التي غالباً ماتستجيب مثل الأفراد لما يطرأ عليها من تحديات جديدة بطرائق تشكلت من خبراتها المؤلمة الماضية.

السؤال المطروح دائما في الأزمات والتمزّقات المجتمعية هو كيف نقونن العنف الملازم للطبيعة البشرية

الباحث "المولدي الأحمر" الذي خصّص أطروحته في البحث عن"الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا" يُرجع مسألة التجاذب الحاد على الشرعية بين القوى السياسية الليبية، وماولدّه من ضروب الفوضى بتعميم العنف بعد عام 2014 إلى غياب الثقافة الديمقراطية، مستدلا بأن الزعماء السياسيين الليبيين كانوا- وحتى اليوم- غير حريصين أبدا على تركيز شرعيتهم السياسية على أساس الانتخابات بمفهومها المعاصر. فدستور 1951 الاستقلالي حظر التعددية الحزبية، فيما اعتبر النظام الجماهيري أن المجلس النيابي تمثيل غيابي خادع للشعب.

وهو مادفعه للتساؤل متشككاً عما إذا كان من الممكن اليوم التوصل إلى حل سياسي انتقالي للأزمة الليبية على قاعدة شرعية انتخابية كفيلة بإفراز مؤسسات سياسية تملك قوة الإقناع أو الإخضاع الضامنة لسيادة الدولة؟
الحقبة الملكية 1951- 1969 التي تبادلت القوتين، او بالأحرى السياستين نجحت بدعم الدولة المنتدبة (بريطانيا)، في إدماج الليبين بقوة الإخضاع دون أن تهمل قوة الإقناع التقليدية في منظومة القانون والنظام تجاوباً مع الاشتراطات التي أملاها الحصول على الاستقلال الضامن لحقوق الأقليات المحليّة كـ(اليهودية) والجاليات الأجنبية كـ(الإيطالية) الباقية بعد الاستقلال. فكانت المؤسسات الحكومية وعاءً ضامناً لسيادة الدولة عبر الإخضاع الطوعي، باندراج الأنماط الثقافية للعنف التي تعبّر عنها خطب الرموز والمؤسسات والمعتقدات، والمواقف في أشكال من القبول والإقرار الطوعية.

فقرار بجسامة حلّ الجمعيات (جمعية عمر المختار في بنغازي ودرنة) والأحزاب الوطنية الطرابلسية أتى مبدئياً بتاريخ 10 فبراير 1948 ببساطة في صورة نداء مغلّف بالنصيحة من طرف الأمير إدريس السنوسي، لمواجهة الأحداث المنتظرة (الاستقلال)، ومبرر باسم الوطن المقدّس وإن أمر تنفيذه متروك لرغبة الموّجه إليهم مع التسليم بالمشيئة الإلهية التي لها الأمر من قبل ومن بعد. إلا أن المشيئة الملكية التي حلّت الأحزاب، بدورها تحّل البرلمان في عام 1955 بسبب ارتفاع أصوات الأعضاء المعارضين (من الإقليمين) للنظام الفدرالي، وفي عامي 1964 ،1965 بسبب التزوير في الانتخابات الذي تمّ بموافقة الحكومة فافتُعل للتغطية حلّ البرلمان وإحالة من ألصقت بهم تهمة التزوير من كبار ضباط قوة الأمن بمرسوم ملكي في 28 سبتمبر 1965 إلى الخدمة المدنية.

ممارسات القصر في اتباع الوسيلتين تجلّت فيما بعد في التعامل مع أحداث تاريخية فارقة كحدث 14 يناير حيث ترافق الحسم الأمني بممارسة القمع العنيف للانتفاضة الشعبية التي تصدرّها الطلاب عام 1964 باللجوء إلى التسويات الناعمة بين طليعة الانتفاضة والتيار القبلي المحافظ عبر المكوّن الأجتماعي المسمّى بـ "أعيان المدينة" الذي برز في تشكيلة الوفد الذي حمل المطالب إلى الملك الذي نجح في احتواء أعضائه من الأعيان بالوظائف والامتيازات، كما أوقعت خبرة النظام الملكي ودرايته بالتركيبة الاجتماعية الليبية ببعض قياديي الحركة إلى تحويل وجهة الصراع إلى مماحكات الأقاليمية نزاعاً بين القبائل والحضر من سكان مدينة (بنغازي) في الشرق التي انبعتث منها الأحداث لتعّم غرب ليبيا.

في السنوات الأربعين السابقة لثورة 17 فبراير فقد شوّهت الدكتاتورية علاقة الدولة بالمجتمع

أما في السنوات الأربعين السابقة لثورة 17 فبراير فقد شوّهت الدكتاتورية علاقة الدولة بالمجتمع بأن أزاحت بل نسفت وظائف الدولة الجمعية والتنظيمية وتلك المتعلّقة بإعادة توزيع الثروة، مطوّرة بالتوازي مع ذلك أكثر قدراتها القمعية والعسكرية بتأطيرها وشرعنتها بعد عام 1977 في أجسام سياسية بديلة غير مؤسسية مسبغة عليها صفة الشعبية والثورية والجماهيرية كاللجان والحركات والحراسات التي لاتحكمها ضوابط ولا تلزمها قوانين او لوائح. فاللجان الثورية نُظّر لها في كتاب "التنظيم الثوري" للقيادي "أحمد إبراهيم" بأن تنشأ طبيعياً دون قرار بإنشائها، وقواها الثورية لاتحتاج إلى النظام، وهي تقود المجتمع في مرحلة الثورة بما فيها قيادة العنف من خلال الجماهير الشعبية ليكون مثمراً وإنسانياً وفعّالا على المستوى النفسي والثقافي. وهذا الإثمار الإنساني في مستوييه دلّل عليه خطاب العنف المتواصل الذي كُرّس في الثقافة المجتمعية الليبية فيما رصدناه من توجيهات الدكتاتور رأس النظام المحدّدة بتواتر في السنوات من 7/4/ 1976 حتى 8/6/ 1981 لواجب حركة اللجان الثورية وهو ممارسة العنف الثّوري ضدَّ أعداء الثّورة بالتّصفية الجسدية والنّهائية لخصوم السّلطة الشّعبيّة في الدّاخل والخارج.

ـ يقدّم "روبيرت ماكافي بروان"Robert McAfee Brown تعريفا للعنف بوصفه انتهاكا للشخصية، بالتعدّي ماديا على الآخر، ومعنويا بإنكاره، أو تجاهله، ويميّز العنف الشخصي الخفي الذي يؤذي الآخر معنوياً، عن العنف المؤسساتي المبطّن، حيث تنتهك البنى الاجتماعية والسياسية هوية الأشخاص. ومثلها مثل الثورات التي تحاول قمعها، تهاجم المؤسسة المكافحة للشغب، والرفض، والتمرّد عن قصد العلائق الاجتماعية في مكان ما، وهي تحاول إعادة صياغتها، تساعد في إطلاق عمليات ذاتية التغذية من التفكّك الاجتماعي العنفي. وستتبنى المؤسسيّة الناقصة التمثيلية أو منعدمتها، كالبرلمانات والحكومات والمجالس، ذات القابلية المحدودة أصلا للبقاء هذه الظروف، لإدامة الصراع الأهلي وتأجيج تطرّفاته، والاستشراء في سلطوية متزايدة و التشذرّ في عقائدية أصولية تتوزّع متوّرمة في الجسد العليل.