Atwasat

كيان بشارب مشقوق

نورالدين خليفة النمر الأحد 16 أكتوبر 2016, 09:49 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تتصيّر الوقائع المتلاحقة لـ"حوليات الخراب الليبي" في الماكنة الطاحنة للفوضى، ما أن تبدأ مستجدّاتها الفادحة شيئا بعيدا في التاريخ، فالهموم في ليبيا تشتجر والانشغالات تتناسل. المجلس الرئاسي بغموض تمثيلية أعضائه في محلّك سرّ يعمل ولايعمل، تحت سطوة الميليشيات غير الإسلامية والإسلامية التي تأكل كالنار نفسها، وحكومة التوافق المقترحة، من المجتمع الدولي، المبتدئة بوزيرين شكليين للداخلية والخارجية في اختفاء و ظهور تفصمها الإفشالات والإخفاقات بثنائية التضييق لتحرّي الكفاءة أم لتوسيع ارتهانا لمحاصصة الجهويات في سلطة تتلاشى في معمّمات العنف، وثروة تذوب في بالوعة الفوضى والفساد، والبرلمان الضائع المضيّع في السرابات المغذَّاة بالقبائليات والنجوعات يصير يوما بعد يوم عبئاً ورهيناً لعسكرتريا بدون مؤسسة جيش عائشة في التوهمات، والمبعوث الدولي الحائر المحيّر،تتلاعب به الضغوطات والارتهانات وتبعد به عن الجسم الدولي الذي فوّضه وعن أساس المهمة التي أوكلت له، والوطن مصير مفهومي لم يحوه يوما بلغة المناطقة "ما صدق"تتوغّل به الحرب الأهلية ميتافيزيقياً في متاهات التصنيف الملتبسة.

فاالكل مسلح، والكل يفتعل ميليشيا:الإرهابي، والجهادي والمؤدلج، والقبلي، والجهوي، والمصالحي والبرلماني، والحزبي، ولص البترول والمهرّب لمواد الغذاء والبنزين والسلاح والبشر والحرابي أو"فِلاَّق" المعاش الفوضوي وحتى المفتي الذي تخلّى عن فضيلته! وقد استبدّ به بحكم وظيفته المعيّن بها نفسه منذ 2011 هوس التحريم والتكفير، والتخوين إرضاءً لخلل في "السيكولوجيا" تنادت باسمه ميليشيا فالكّل "أولاد تسعة شهور" وليس هناك أحد خيرا من أحد والليبيون الذين تنبأ لهم الكاتب (أحمد إبراهيم الفقيه) بأن يصيروا جمالا، بشوارب مفلوقة يمدّون أعناقهم الطويله في قصته المنشورة عام 1974 والتي قرأناها وقت ذاك مقالا سياسياً بعنوان "الرجل الذي لم يشاهد في حياته نهرا " صاروا اليوم بعد أن غاصوا في نهر العنف جِمالا ميليشاوية وحشية منفلتة من عقال النظام والقانون تضرب في كل موضع وتقتل في كل مكان.

النهر في حكاية الفقيه استعارة عن العواطف ومحورها الحب والمقهى هو المدينة التي تسقي رجالها قهوة الحرمان المّرة

إن ما يعيدنا بالذاكرة إلى استعارة شارب الجمل المشقوق نصفين الانشقاق الذي يضرب مزدة البلدة التي ينتمي إليها الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه بتجدد الاشتباكات 12 أكتوبر 2016 بين قبيلتي "قنطرار"و"المشاشية" الذي وصلت حصيلة قتلاه من الجانبين إلى ستة والجرحى إلى اثنى عشر.

كما تسبب في نزوح أكثر من 40 عائلة من قبيلة قنطرار إلى بلدات نسمة، و بني وليد، والعربان وحتى غريان في سياق العنف الذي تشهده بلدة مزدة النقطة شبه الصحراوية الواقعة جنوب طرابلس من صراع ممتد منذ 2012 بين قبيلتي "قنطرار" القارّة التي ينتمي إليها الكاتب الفقيه وبين المشاشية المترحلة والتي وطنّت في مزدة في سياق الترتيبات الديمغرافية والزبونية للعهد الدكتاتوري السابق، وهي السياقات التي ترتّب عنها بعد ثورة 17 فبراير 2011 نزاع مسلح استخدمت فيه الأسلحة المتوسطة والثقيلة وسقط فيه عشرات القتلى والجرحى، وتسبب في تدمير عدد من المنازل وتهجير الكثير من العائلات، مما ساهم في تعطل عمل المرافق العامة والأعمال الخاصة. حتى أصبحت البلدة منقسمة اجتماعيًا وجغرافيًا إلى جزئين، أحياء قنطرار الجنوبية وأحياء المشاشية الشمالية الجامع بينهما التحارب والنزاع.

المفارقة الملتبسة أنّه في 5 سبتمبر 2016 انطلقت في مزدة تحت شعار "من أجل السلام أكثر" فعاليات الدورة الأولى للمهرجان الدولي للأفلام القصيرة برعاية الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون بطرابلس والمجلس المحلي مزدة، وشاركت في المهرجان حسب ماذُكر تسع دول عربية منها مصر وتونس والعراق والأردن، وعرض فيه 21 فيلمًا قصيرًا منها 12 فيلمًا للتقييم وتسعة أفلام للعرض على هامش المهرجان. هذه المفارقة تجرنا للعودة مجدداً إلى قصة (أحمد إبراهيم الفقيه)، أي حكايته النبوئية الصاعقة عن استعارة الجمل: الرجل الجالس في المقهى الذي بعد رشفه من قهوته صار يفتح شاربه المفلوق إلى نصفين مبتسما ويمدّ عنقه الطويل يستقبل رجلا يدعوه إلى الجلوس ويطلب له قهوة، من الرشفة الأولى يتحول الرجل الآخر على الفور أمام عيني مضيّفه، إلى جمل بل أحسّ السارد بضمير الأنا، بأنه هو أيضا سوف يتحوّل بعد لحظات إلى جمل وأن عنقه يزداد طولا وأن شفته العليا سوف تنشّق بعد قليل إلى نصفين.

النهر في حكاية الفقيه استعارة عن العواطف ومحورها الحب، والمقهى هو المدينة التي تسقي رجالها قهوة الحرمان المّرة، التي يتحوّلون بعد رشفة منها إلى جمال برّية مفلوقة الشوارب والشارب المشقوق نصفين استعارة عن الانقسام في الهوّية الذي يعكسه اليوم الانقسام المجتمعي الذي يضرب اليوم ليبيا في نسيجها الإنساني وفي كل بقعة منها فلا يترك حتى بلدة مزدة الصغيرة مسقط رأس الكاتب وموطن صباه الذي كتب قصص أمانها الذي تقلقه فقط مُهدّدات الطبيعة الجراد والذئاب وسكونها الذي لايقطعه إلا صوت الطاحونة ترتفع دقاته في جو البلدة الهادي الرزين في إيقاع سريع ومنتظم ورتيب كدّقات قلب الإنسان عندما يكون سليماً، معافى البدن والروح .