Atwasat

إعادة ترتيب العالم

روبرت كوبر الإثنين 19 سبتمبر 2016, 09:31 صباحا
روبرت كوبر

ترجمة: نورالدين السيد الثلثي

مقدِّمة المترجم:
أصدر مركز السياسة الخارجية (The Foreign Policy Centre) البريطاني، سنة 2002، مجموعةَ مقالاتٍ بعنوان "إعادة ترتيب العالم: الآثار بعيدة المدى للحادي عشر من سبتمبر Re-Ordering The World: The Long-Term Implications of September 11th" اشتملت على مساهماتٍ من إيهود باراك وكنعان مكّية من بين آخرين، وقدّم لها توني بلير. اكتست هذه المقالةُ أهميةً خاصة بالنظر للعلاقة التي تربط كاتبَها برئيس وزراء بريطانيا توني بلير وقتها.

تضمّنت هذه المجموعةُ مقالةً لـ روبرت كوبر Robert Cooper بعنوان ’دولة ما بعد الحداثة The Post Modern State‘ يخلُص فيها الكاتب إلى مشروع ’إمبريالية من نوعٍ جديد‘، تأخذ أحد شكلين: ’إمبريالية الاقتصاد العالمي الطوعية‘ و’إمبريالية الجوار‘، ومفهوم الجوار عند كوبر يتسع ليشمل العالم كله.

في هذه المقالةَ طرحُ تصوّرٍ للمشروع الإمبرياليي في مرحلة ما بعد الحداثة. لغة المشروع ومسوِّغاته فقط هي الجديدة؛ رسالتُه لم تعُد جلبَ قيمِ الحضارة لأممٍ همجية أو فتح الممرّات أمام التجارة، فلكلّ عصر لغته. في المقالة تعبيرٌ عن الخلفيةِ الفكريةِ للسياساتِ الماضية في اجتياح منطقتنا ومفردات الإعلام المصوَّب نحوها.

ترجمة المقالة:
انهارت في أوروبا عام 1989 منظومتان سياسيّتان عمرُهما ثلاثة قرون هما: ميزان القوى والنزعة الاستعمارية. لم يتميّز ذلك العام بنهاية الحرب الباردة فقط، ولكنه تميّز كذلك بما هو ذو مغزىً أبعد وهو نهاية منظومة الدول في أوروبا، وهي التي يعود تاريخها إلى حرب الثلاثين عاماً. وقد أوضح لنا الحادي عشر من سبتمبر واحداً من مضامين التغيير.

علينا فهمُ الماضي إذا أردنا فهمَ الحاضر، فالماضي لا يزال معنا. لقد ارتكز النظامُ الدوليّ في الماضي إمّا إلى الهيمنة أو إلى التوازن. أتت الهيمنة أولاً، وفي العالم القديم كان ذلك يعني الإمبراطوريات. نعِمَ مَن بداخل الإمبراطورية بالنظام والثقافة والحضارة، وبقي خارجها الهمج والاضطراب والفوضى. وترسّخت صورةُ السّلم والنظام من خلال مركزِ قوّةٍ مهيمِنٍ ووحيد منذ ذلك الحين وحتّى الآن.

منظومة ما بعد الحداثة التي نعيش فيها نحن الأوربيين لا تعتمد على توازن القوى ولا تؤكّد على السيادة

إلاّ أن الإمبراطوريات ليست مؤهّلةً لإحداث التغيير، فالمحافظة على تماسك الإمبراطورية ـ والإمبراطوريات في الأساس يطبعُها التنوّع ـ يتطلّب في العادة نهجاً سياسيّاً سلطوياً؛ فالابتكار، في المجتمع والسياسة على وجه الخصوص، يؤدّي إلى الإخلال بالتوازن. لقد كانت الإمبراطوريات في التاريخ ساكنةً على وجه العموم.

وُجد في أوروبا سبيلٌ وسَط بين حاليْن ساكنيْن - حالِ الفوضى وحالِ الإمبراطوريات - تمثّل في الدولة الصغيرة. لقد نجحت الدولة الصغيرة في بناء السيادة، ولكنّ ذلك كان فقط في إطار ولايةٍ قانونية محدودةٍ جغرافيّاً.

وبذلك يكون النظام [السّلم] الداخلي قد تحقق مقابل ثمنٍ من الفوضى الدولية. كان التنافس بين الدول الصغيرة في أوروبا مصدَراً للتقدم، ولكن المنظومة كانت مهدّدةً دائماً إمّا بالعودة إلى الفوضى أو إلى هيمنة قوةٍ بمفردها.

وكان الحلُّ لهذا الوضع هو توازن القوى، أي بمنظومة من التحالفات المتوازنة مقابل بعضِها البعض، وهو ما أصبح يُنظر إليه كشرطٍ للحرية (liberty) في أوروبا، فأُنشئت التجمّعات (coalitions) بنجاحٍ لكبح طموحاتِ الهيمنة لدى أسبانيا أولاً ثمّ فرنسا وأخيراً ألمانيا.

ولكن كان بمنظومة توازن القوى خللٌ نابعٌ من ذاتها، وهو خطرُ الحرب الحاضرُ دائماً. لقد أدّى توحيد ألمانيا سنة 1871 إلى إنشاءِ دولةٍ أقوى من أن يُحقّق أيُّ تحالف أوروبي توازناً معها؛ لقد رفعت التغيّراتُ التكنولوجية تكاليفَ الحروب إلى مستوياتٍ لم يعد بالإمكان تحمّلها؛ وجعل تطوّرُ المجتمعاتِ الكبرى والنّظُمِ الديمقراطية من المستحيل ظهورُ إطارٍ عقليٍّ مخطِّطٍ وبعيدٍ عن المراجع الأخلاقية، وهو الإطار الضروريُّ لكي يؤدّي توازنُ القوى وظيفتَه.

وبالرغم من ذلك، ولعدم وجود بديلٍ واضح، فقد استمرّت منظومة توازن القوى هذه. وما برز سنة 1945 لم يكن منظومةً جديدة بقدرِ ما كان المنظومةَ القديمة نفسَها وقد بلغت ذروتَها. لقد تحوّل توازنُ القوى متعدّدُ الأطراف في أوروبا إلى توازنِ رعبٍ بين طرفيْن على مستوى العالم، وهذا هو توازن القوى في أبسط أشكاله. ولكن هذا التوازن لم يوجد ليبقى، فهو لم يرُقْ أبداً للروح العالمية الأخلاقية للجزء الأخير من القرن العشرين.

لم تكن نهاية توازن القوى وحدَها هي ما شهده النصف الثاني من القرن العشرين، ولكنه شهد أيضاً أفولَ النزعة الاستعمارية؛ والاثنان مرتبطان بدرجةٍ ما. لقد بدأ القرن العشرون بعالَمٍ مقسّمٍ بين إمبراطوريات أوروبية، وانتهى بنهايتها جميعاً تقريباً. لم تعُد الإمبراطوريات العثمانية والألمانية والنمساوية والفرنسية والبريطانية وأخيراً السوفييتية أكثرَ من ذكرى.

وهذا يتركنا بنوعيْن جديديْن من الدول:
أولاً، دُولٌ ـ في الغالب مستعمراتٌ سابقة ـ حيث تكاد الدولة، بشكلٍ أو بآخر، تختفي عن الوجود. إنها منطقة ’ما قبل الحداثة، حيث سقطت الدولة ونشبت حربٌ هوبزية (Hobbesian) بين الجميع ضدّ الجميع.
ثانياً، دول ما بعد المرحلة الإمبريالية وما بعد الحداثة التي لم تعد تنظر إلى الأمن من زاوية الغزو بالدرجة الأولى.

وتوجد بطبيعة الحال دول ’الحداثة‘ التقليدية التي تنتهج سلوكاً مماثلاً للسلوك الذي انتهجته الدول دائماً، متّبعةً المبادئ الميكيافيلية (يستذكر المرء هنا دولاً مثل الهند والباكستان والصين).

منظومة ما بعد الحداثة التي نعيش فيها نحن الأوربيين لا تعتمد على توازن القوى ولا تؤكّد على السيادة أو على الفصل بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية. لقد أصبح الاتحاد الأوروبي منظومةً متطوّرةً جداً للتدخّل المتبادل في الشئون الداخلية للدول وصولاً إلى مستوى المشروبات والمأكولات.

إن "معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا CFE" التي يلتزم الأطراف بموجبها بالإعلان عن أماكن أسلحتهم الثقيلة ويسمحون بالتفتيش عليها، تضع جوانب قريبةً جداً من جوهر مفهوم السيادة تحت القيود الدولية. من المهم أن ننتبه إلى ما يمثّله ذلك من ثورةٍ غيرِ عادية. إنه يعكس مفارقةَ العصر النووي التي تفيد بأنك لكي تدافع عن نفسِك، يجب أن تكون مستعداً لتدمير نفسِك. إن المصلحةَ المشتركة للبلدان الأوروبية في تجنّب كارثةٍ نووية كانت كافيةً للتغلّب على المنطق الاستراتيجي المعتاد المرتكز على عدم الثقة والإخفاء. لقد تحوّلت المخاوف المتبادلة إلى شفافيةٍ متبادلة.

الخصائص الرئيسية لما بعد الحداثة هي ما يلي:
▪ انهيار التمييز بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية.
▪ التدخّل المتبادل في الشئون الداخلية (التقليدية) والمراقبة المتبادلة.
▪ نبذ استخدام القوة لفضّ النزاعات، وما ترتّب على ذلك من تقنينٍ لقواعد السلوك المطبّقة ذاتيّاً.
▪ التناقص المتزايد لأهمية الحدود الإقليمية، الأمر الذي ظهر نتيجة تغيّر دورِ الدولة وعَبْر الصواريخ والسيارات والأقمار الصناعية.
▪ تأسيس الأمن على الشفافية، والانفتاح المتبادل، والتساند المتبادل، والخوف المتبادل.

يقدّم مفهوم محكمة الجنايات الدولية مثالاً لافِتاً للنظر لانهيار التمييز بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية في عالم ما بعد الحداثة. إن نظريات ماكيافيللي عن شئون الدولة، والتي عرّفت العلاقات الدولية في العصر الحديث، قد تمّ إبدالُها بمفهومٍ أخلاقي يَسْرِي على العلاقات الدولية مثلما يسري على الشؤون الداخلية، وقد ترتّب على ذلك تجدّدُ الاهتمام بما يشكّل حرباً عادلة.

الدول الأوروبية ليست الوحيدةَ في عالم ما بعد الحداثة

تعالج هذه المنظومة المشاكلَ التي شلّت عمل ميزان القوى، إلاّ أنها لا تتضمّن اندثار الدولة القومية. وفي حين أصبحت مجالات الاقتصاد والتشريع والدفاع راسخةً ضمن أُطرٍ دولية، وتراجعت أهميةُ الحدود الإقليمية، نجد أن الهويةَ والمؤسسات الديمقراطية قد بقيت مسائل وطنيةً بالدرجة الأولى. وعلى ذلك ستبقى الدولةُ التقليدية الوحدةَ الأساسية في العلاقات الدولية في المستقبل المنظور بالرغم من أن سلوك بعض الدول سيبتعد عن السلوك التقليدي للدول.

ما هي جذور هذا التغيّر الأساسي في منظومة الدولة؟ إن النقطة الأساسية هنا هي أن العالم قد كبُر فأصبح ’أكثر أمانةً‘. إن عدداً كبيراً من الدول الأكثر قوةً لم تعُدْ ترغب في القتال أو الغزو، ممّا أدّى إلى ظهور عالَمَيْ ’ما قبل الحداثة‘ و’ما بعد الحداثة‘ كليْهما. لقد ماتت الإمبريالية بمفهومِها التقليدي، لدى الدول الغربية على الأقل.

إذا ما صحّ ذلك فإنه من واجبنا ألاّ نظن أن الاتحادَ الأوروبي أو حتى حلف الأطلنطي كان السبب فيما نعِمنا به من سلام في أوروبا الغربية خلال نصف قرن. إن الحقيقةَ الأساسية هي أن الدول الأوروبيةَ الغربية لم تعُد ترغب في التقاتل فيما بينها. وقد قام حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي رغم ذلك بدورٍ هامٍ في دعم واستمرار هذا الوضع. لقد كانت أهمُّ مساهمات حلف الأطلنطي هي الانفتاح الذي بناه. لقد كان حلف الأطلنطي، ولا يزال، عاملاً ضخماً لبناء الثقة بين الأطراف الغربية المختلفة.

لقد كان حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي المؤسستين اللتين وفّرتا الإطارَ الذي مكّن من إعادة توحيد ألمانيا من دون توجيه تهديدٍ لباقي أوروبا مثلما كان الحال عند التوحيد الأوّل سنة 1871. تجري في إطار هاتين المؤسستين آلاف الاجتماعات بين الوزراء والمسؤولين لكي يعرف المسؤولون عن قرارات الحرب والسلم بعضَهم بعضاً معرفةً جيدة. وإذا ما قارنّا ذلك بما كان عليه الحال في الماضي سنجد أنه يمثّل نوعاً من العلاقات السياسية وتوازناً لم يكونا معروفيْن من قبل أبداً.

إن الاتحاد الأوروبي هو أكثر منظومات ما بعد الحداثة تطوّراً. إنه يمثّل الأمن من خلال الشفافية، والشفافيةَ من خلال التساند المتبادل. الاتحاد الأوروبي منظومةٌ تتجاوز حدودَ الدول أكثر منه منظومة تعلو فوق مستوى الدول، وهو اتحادٌ طوعي بين الدول ليس فيه إخضاعٌ قسري لسلطةٍ مركزية. إن حلم الدولة الأوروبية يعود لعصرٍ سابق. إنه يرتكز إلى فرضية أن الدولةَ القومية تمثل خطَراً أساسياً، وأن الطريقة الوحيدة للسيطرة على الفوضى بين الأمم لا تكون بغيرِ فرض الهيمنة عليها. ولكن، إذا كانت الدولةُ القومية هي المشكلَ فإن الدولة المركزية المهيمِنة ليست الحلَّ بكل تأكيد.

الدول الأوروبية ليست الوحيدةَ في عالم ما بعد الحداثة. من بين الدول خارج أوروبا تُعَدّ كندا بكلّ تأكيد من دول ما بعد الحداثة، واليابان تميل إلى أن تكون كذلك، غير أن موقعها الجغرافي يمنعها من التطور في هذا الاتجاه بشكلٍ كامل. أما الولايات المتحدة فهي حالةٌ يشوبها الشك، إذ إنه ليس من الواضح ما إذا كانت الحكومة الأمريكية أو الكونجرس يقبلان بضرورة التساند المتبادل أو يرغبان فيه وفيما يترتّب عليه من انفتاحٍ ومراقبةٍ متبادلة وتدخّلٍ متبادل إلى المدى الذي تقبل به معظم الحكومات الأوروبية الآن. أما فيما عدا ذلك فإننا نجد أن ما تحقق في أوروبا أصبح موضع تطلّعات أجزاء كثيرة من العالم. إن منظمات آسيان ونافتا وميركوسور وحتى منظمة الوحدة الإفريقية توحي في أقلِّ تقدير بوجود الرغبة في تحقيق بيئة ما بعد الحداثة. وبالرغم من أنه من المستبعد تحقيق هذه الرغبات بسرعة فإن التقليدَ يبقى من دون شكٍّ أسهلَ من الاختراع.

لا يوجد في عالم ما بعد الحداثة تهديدٌ للأمن بالمعنى التقليدي؛ بمعنى أنّه ليس لدى أطرافِ ما بعد الحداثة احتمالٌ بأن يغزوَ أحدُهم الآخر. تُعتبر الحربُ في عالم الحداثة، وطبقاً لنظرية كلاوسفيتز، أداةً من أدوات السياسة، أمّا في عالم ما بعد الحداثة فهي تُعتبر علامةً على الفشل السياسي. وبينما لا يشكّل أطراف ما بعد الحداثة خطراً على بعضهم البعض، نجد أن مجموعتي الحداثة وما بعد الحداثة كليْهما، تشكّلان تهديداً، كلٌّ منهما تِجاه الأخرى.

إن التهديدات التي تمثّلها مجموعة الحداثة هي الأكثر شيوعاً، إذ نجد أن المنظومة الكلاسيكية للدولة، والتي غادرها عالم ما بعد الحداثة منذ فترة قصيرة فقط، باقيةٌ كما هي، ومستمرةٌ في التصرف طبقاً لمبادئ الإمبراطوريات وإعلاءِ المصلحة القومية فوق كلِّ الاعتبارات. سيأتي الاستقرار، إذا ما أريدَ له أن يتحقق، عن طريق التوازن بين القوى ذات النزعات العدوانية. يُلفت النظرَ كَمْ هي قليلةٌ مناطق العالم التي يوجد بها مثلُ هذا التوازن، وكَم هي كبيرةٌ مخاطرُ احتمال دخول العنصر النووي إلى المعادلة في بعض المناطق قريباً.

انقضاء عهد الإمبريالية هو ذاته السبب في ظهورِ عالم ما قبل الحداثة

إن التحدّي الذي يواجه عالم ما بعد الحداثة هو تقبُّل فكرة المعايير المزدوجة؛ أن نتعامل فيما بيننا على أسسٍ من القانون والأمنِ المنفتح والتعاوني، وأن نعود في تعاملنا مع الأنواع القديمة من الدول التي تقع خارج أوروبا ما بعد الحداثة إلى طرق العصور السابقة الأكثر خشونة. سيتعيّن علينا أن نعود إلى استخدام القوة والهجوم الاستباقي والخداع وكلِّ ما هو ضروري للتعامل مع أولئك الذين لا يزالون يعيشون في عالم القرن التاسع عشر حين كانت كلّ دولةٍ معنيّةً بذاتها فقط. سنحترم القانون في التعامل فيما بيننا، أما حين نعمل في الغابة سيتعيّن علينا أن نستعمل قوانين الغابة. لقد أغرانا طول زمن السّلم في أوروبا بعدم الاهتمام بدفاعاتنا، المادية منها والمعنوية، وهذا يمثّل واحداً من المخاطر الكبرى التي تواجه دول ما بعد الحداثة.

أما الخطر الذي يمثّله عالم ما قبل الحداثة فهو خطرٌ جديد. عالمُ ما قبل الحداثة هو عالم الدول الفاشلة، حيث تعجز الدولة عن الوفاء بمعايير (فيبر) التي تقضي باحتكار الدولة للاستخدامِ الشرعي للقوّة. الدولة في هذه الحالة إمّا فاقدةٌ للشرعية أو فاقدةٌ للتفرّد باستخدام القوة. وفقدان الشرعية وفقدان التفرّد باستخدام القوة كثيراً ما يكونان متلازمين. الأمثلة على الانهيار الكامل قليلةٌ نسبيّاً، ولكن عدد الدول التي تقع في دائرة خطر الفشل في ازديادٍ مستمر. بعض مناطق الاتحاد السوفييتي السابقة مرشّحةٌ لهذا المصير، وهذا يشمل الشيشان.

جميع مناطق إنتاج المخدّرات تمثّل جزءاً من عالم ما قبل الحداثة. لم تكن في أفغانستان حتى عهدٍ قريب سلطةٌ ذاتُ سيادة، وكذلك هو الحال في دواخل بورما وفي أجزاء من أمريكا الجنوبية حيث يهدّد أمراء المخدرات تفرّد الدولة باستخدام القوة. توجد بلدانٌ في جميع أنحاء إفريقيا مهدّدة بهذا المصير، ولا تخلو منطقةٌ من العالم من هذه المخاطر. الفوضى في تلك المناطق هي الأمر الاعتيادي والحرب جزءٌ من نمط الحياة فيها. والحكومات في تلك المناطق ـ إن وُجدت حكوماتٌ ـ تعمل بطريقة مشابهةٍ لطرق عمل جماعات الجريمة المنظّمة.

قد تكون دولةُ ما بعد الحداثة أضعفَ من أن تؤمِّن أراضيها، وهي أبعدُ ما تكون عن تشكيلِ تهديدٍ للغير، إلاّ أنها من الممكن أن توفّر قواعدَ لجماعاتٍ غيرِ تابعةٍ لأيّ دولة قد تمثّل تهديداً لعالم ما بعد الحداثة. وإذا ما لجأت هذه الجماعات، وخاصةً منها جماعات المخدّرات أو الجريمة أو الإرهاب، إلى استخدام قواعدَ [في مناطق] ما قبل الحداثة للهجوم على المناطق الأكثرِ استقراراً من العالم، فإن الدول المستقرّة قد تُضطرّ في النهاية إلى الرّد. وإذا ما أصبح خطرُ هذه الجماعات أكبرَ من أن يُحتمل، فسيكون من السهل تصوّرُ ظهور إمبريالية دفاعية. وليس من المبالغة النظرُ إلى ردِّ الغرب على أفغانستان من هذه الزاوية.

كيف نتعامل مع فوضى ما قبل الحداثة؟ إن الانجرارَ إلى مناطق الفوضى أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، فالتّدخّلُ إذا ما طال أمدُه لن يكون مقبولاً لدى الرأي العام، وإذا ما كان غيرَ ناجحٍ فإنه سيأتي بالضّرر على الحكومةِ التي أمرت به. ولكن ترك بلدانٍ متفسِّخةٍ وشأنها، كما فعل الغربُ بالنسبة لأفغانستان، قد يحمل مخاطرَ أكبر.

ما الشكل الذي ينبغي أن يأخذه التدخّل؟ إن أكثر أشكال التعامل مع الفوضى بداهةً هو الشكل المعهودُ في الماضي، ألا وهو الاستعمار. غيرَ أن الاستعمارَ أصبح غيرَ مقبولٍ لدى دولِ ما بعد الحداثة (ويتصادف أن هذا هو الحالُ أيضاً لدى بعضِ دول الحداثة). إنّ انقضاء عهد الإمبريالية هو ذاته السبب في ظهورِ عالم ما قبل الحداثة.

البيروقراطيةُ المركزية بالضرورة تحت المراقبة والمحاسبة بصفتها خادم الاتحاد لا سيّدَه

لقد أصبحت الإمبراطوريات والإمبريالية من الكلمات المُشينة في عالم ما بعد الحداثة. لم تعُد هناك في عالم ما بعد الحداثة اليوم قوىً استعمارية تقبل القيام بهذا الدور، بالرغم من أن الفرص، وربّما حتى الحاجة، متاحةٌ الآن بنفس الدرجة التي كانت عليها في القرن التاسع عشر. يواجه الذين لم يلتحقوا بالاقتصاد العالمي خطرَ الوقوع في دائرةٍ مفرغة. إن الحكومة الضعيفة تعني الفوضى، ممّا يعني تناقص الاستثمارات. لقد كان معدّل إجماليِّ الناتج القومي للفرد في كوريا الجنوبية سنة 1950 أقلَّ منه في زامبيا، وأصبحت إحداهما جزءاً من الاقتصاد العالمي في حين فشلت الثانية.

إن جميع شروط الإمبريالية متوفّرة، ولكنّ العرض والطلبَ، كليهما، قد نضبا. ولا يزال الضعيف، رغم ذلك في حاجةٍ إلى القوِيّ، والقوِيُّ في حاجةٍ إلى عالمٍ مستقرٍّ؛ يقوم فيه ذوو الكفاءةِ العالية والحكمِ الرشيد بتصديرِ الاستقرارِ والحرية، ومنفتحٍ للاستثمار والنّموِّ ـ وجميعُها أشياءٌ مرغوبٌ فيها. إن ما نحتاجه اليوم إذن هو نوعٌ جديدٌ من الإمبريالية يكون مقبولاً لدى عالَم حقوق الإنسان والقِيَم العالمية. باستطاعتِنا منذ الآن تبيّنُ معالمه، فهو مثل أيِّ إمبريالية أخرى، يهدف إلى تحقيق الاستقرارِ والنظام، ولكنه اليوم يستند إلى مبدأ التطوّع.

إمبريالية ما بعد الحداثة لها شكلان:
توجد أولاً إمبرياليةُ الاقتصاد العالمي الطوعية، المسيَّرةُ عادةً من قِبل ائتلافٍ عالمي عن طريق مؤسساتٍ ماليّة مثل صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ـ وهي مؤسساتٌ متعدِّدة الأطراف، كما هي سِمةُ الإمبرياليّة الجديدة. تقوم هذه المؤسسات بتقديم المساعدة إلى الدّول التي ترغب في العودة إلى الاقتصاد العالمي وإلى دائرة الاستثمار والازدهار الفاضلة. ولهذه المؤسسات في المقابل طلباتٌ تأمل أن تُعالج بها عناصرَ الفشل الاقتصادي والسياسي التي ساهمت في ظهور الحاجة إلى المساعدة أصلاً. وتؤكّد نظرية المساعدات الآن على نظرية الحكم، فإذا ما أرادت دولةٌ ما أن تستفيد، سيكون عليها أن تقبَل تدخّلَ المنظمات الدولية والدول الأجنبية (تماماً مثلما انفتحت دول ما بعد الحداثة، وإن كان ذلك لأسبابٍ مختلفة).

الشكل الثاني من إمبريالية ما بعد الحداثة يمكن تسميته إمبريالية الجيران. يثير عدم الاستقرار في منطقةٍ ما تهديداتٍ لا يمكن لأيّ دولةٍ أن تتجاهلها. لقد أثار سوءُ الحكم والعنفُ العرقيّ والجريمةُ في منطقة البلقان تهديداتٍ لأوروبا، وكان الرّدُّ على تلك التهديدات بأن أُنشئت ما يشبه المحميّتين الطّوعيّتين، تابعتين للأمم المتحدة، في البوسنة وكوسوفو، ولا يثير الدهشةَ هنا أن كان المندوب السامي في الحالتين أوروبيّاً. أوروبا هي التي تقدّم للبوسنة وكوسوفو معظمَ المساعدات الضرورية ومعظمَ الجنود (رغم أن الوجود الأمريكي لا غنىً عنه كعامل استقرار).

وفي خطوة إضافية لا سابقةَ لها، عرض الاتحادُ الأوروبي على جميع دول يوغوسلافيا السابقة الدخولَ الحرَّ إلى السوق لجميع منتجاتها بما فيها معظم المنتجات الزراعية. لا يقتصر دور المجتمع الدولي على توفير الجنود، بل يتعدّاه إلى توفير الشرطة والقضاة وضباط السجون والمصرفيين المركزيين وآخرين، كما تقوم منظمة التعاون والأمن في أوروبا (OECD) بتنظيم ومراقبة الانتخابات، وتقوم الأمم المتحدة بتدريب وتمويل الشرطة المحلية، إضافةً إلى المساعدة التي تقدّمها أكثرُ من مائة منظمة غيرِ حكومية.

ويوجد اعتبارٌ آخرُ يجب توضيحه، وهو أن استيلاءَ الجريمة المنظمة أو غيرِ المنظَّمة، بشكلٍ أو بآخر، على دولة ما سيمثّل خطراً على جيرانها، وهذا الاستيلاء هو ما يعنيه سقوط الدولة. لقد أقام أسامة بن لادن الدليل، لمن لم يكونوا قد أدركوا بعد، على أن العالم بأسره في هذا العصر قد أصبح جاراً محتمَلاً في أقلّ تقدير.

تُعتبر منطقة البلقان حالةً خاصة، ففي أنحاءَ أخرى من أوروبا يعمل الاتحادُ الأوروبي على تنفيذ برنامج سيؤدّي في النهاية إلى توسيعٍ ضخمٍ للاتحاد. لقد فرضت الإمبراطوريات في الماضي قوانينَها ونُظمَ الحكم فرضاً، أمّا هنا فإننا لا نجد أحداً يفرض شيئاً على أحد، بل نجد توجّهاتٍ طوعيةً للالتزام الذاتي. عليك أن تقبل خلال فترةِ الترشح ما يُقدّم إليك (كمية هائلة من القوانين واللوائح التي كان على الدول في مراحل ترشّحها أن تقبل بها)، وذلك في سبيل الظفَرِ بجائزة الدخول التي تعطيك صوتاً داخل الاتحاد. وإذا ما كانت هذه العملية تمثّل إمبريالية طوعية، فإن الدولية التي تنشأ نتيجةً لها يمكن وصفُها بالإمبراطورية التعاونية. وقد يكون اسم الكومنولث اسماً مناسباً لها.

يقدّم اتحادُ ’ما بعد الحداثة‘ الأوروبي رؤيةً للإمبراطورية التعاونية وللحرية المشتركة والأمن المشترك، من دون سيطرة عرقية أو مركزية مطلقةٍ مثل التي طبعت الإمبراطوريات في الماضي، وكذلك من دون تفرّدٍ عرقيٍّ طبع الدولة القومية. لم يعُد التفرّد العرقيُ مناسباً في عصرٍ اختفت فيه الحدود، وهو غيرُ عمليٍّ في مناطق مثل البلقان. قد تكون الإمبراطورية التعاونية هي الإطارُ السياسي الداخليُّ الأكثرُ ملاءمةً للتغيّرات الجوهرية التي تنطوي عليها دولة ما بعد الحداثة، بصفتها إطاراً يكون فيه للجميع نصيبٌ في الحكم، ولا تنفرد فيه دولةٌ بعينها بالسيطرة، وتسودُها المبادئ القانونية لا العرقية.

سيكون المركز فيها ضعيفَ التأثير، والبيروقراطيةُ المركزية بالضرورة تحت المراقبة والمحاسبة بصفتها خادم الاتحاد لا سيّدَه. يجب أن تكرِّس مثل هذه المؤسسة نفسَها للعنصرين المكوِّنين لها وهما الحرية والديمقراطية. وسيقدّم هذا الاتحاد لمواطنيه ـ مثلما كان الحال بالنسبة لروما ـ بعضَ القوانين وقطعَ النقود، والطُّرقَ مِن آنٍ لآخر.

تلك هي الرؤية ربما. هل بالإمكان تحقيقها؟ الزمن وحدَه كفيلٌ بالإجابة. السؤال هو كم بقي لدينا من الوقت. السباق السرّيُّ في عالمنا المعاصر للحصول على السلاح النووي مستمر. في عالم ما قبل الحداثة كانت مصالح الجريمة المنظمة – بما في ذلك الإرهاب الدولي – تنمو بمعدّلاتٍ تتجاوز نُموِّ الدولة. ربما لم يبق من الوقتِ الكثير.