Atwasat

فزان والتاريخ المنسي

محمد الطاهر الجراري الأربعاء 15 يونيو 2016, 05:55 مساء
محمد الطاهر الجراري

البشر حتى ولو كانوا في الجنان مفطورون على الهجرة خصوصاً نحو مناطق الجذب بأنواعه، والسواحل الليبية من أقرب المناطق للدواخل الأفريقية ومنها إلى أوروبا وغيرها.

الاعتقاد بأن الأساطيل والقواعد العسكرية البحرية على السواحل الليبية بالمتوسط ستوقف الهجرة وتجارة البشر الناجمة عنها يشبه تحصين الباب الأمامي للبيت وترك الظهر مفتوحاً لكل قادم.

تاريخياً كل الدول التي سيطرت على ليبيا، اتبعت استراتيجية تعتمد على تأمين الحدود الجنوبية الليبية مباشرة أو باتفاقيات وتحالفات.

وفيما يلي استعراض لهذه الاستراتيجية زمن الرومان والوندال والبيزنطيين والراشدين وبنو الخطاب والأيوبيين وأولاد محمد والقرمانليين والعثمانيين والإيطاليين.

 العهد الروماني
في العصر الروماني جربت السلطة خطة الهجمات المباغتة على الجنوب ثم العودة للشمال، مثل حملة كورناييوس بالبوس 19ق.م، وبعده مباشرة تقريبا فاليريوس فيستوس ثم بعدهما جوليوس ماتيرنوس وسبتميوس فلاكوس، لكن هذه السياسة فشلت فاستبدلوها بالتعاون والاتفاقيات مع القبائل والمدن المسيطرة مثل جرمة التي عقدوا معها معاهدات تعاون وتحالف استراتيجي، به أمنوا الشمال مقابل تسهيل مرور التجارة شمالاً وجنوباً.

- فشلت هذه السياسة الرومانية أيضاً فاستبدلتها السلطة الرومانية بحاميات قارة على طول الحدود مع الجنوب وأبرز أباطرة هذه السياسة هو سبتميوس سيفيروس وابنه الإسكندر الذي أنشأ حاميات دائمة في غدامس وأبو نجيم والقريات الغربية وغيرها.

 عهد البيزنطيين
في العهد البيزنطي تسببت الحروب المعروفة، خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين، بين الوندال والبيزنطيين والقبائل الليبية، والتي وثقتها ملحمة الحرب الليبية الرومانية للشاعر كوريبوس، في هجرة الأخيرة نحو الجنوب وإضعاف القوة التي قامت بدور الحامي للشمال طوال العهود السابقة وهي جرمة مقابل تعاون تجاري واقتصادي واسع بين مملكة جرمة والرومان.

 الخلافة الراشدة
في العصر الإسلامي ركز القادة الأوائل على الجنوب فسارعوا لافتتاحه قبل استكمال فتح طرابلس وغيرها من مدن الشمال، وأمضى عقبة في الجنوب الليبي أكثر من عقد لإحكام سلطته عليه قبل الانطلاق إلى بقية المغرب ونقل عقبة مركز الثقل الإداري والعسكري من جرمة إلى زويلة التي تحولت إلى قوة اقتصادية هائلة في كل الجنوب والمنطقة كلها وتحملت في نفس الوقت مهمة الدفاع عن الشمال.

 مملكة زويلة
في القرن العاشر الميلادي انتقل الاهتمام من جرمة إلى زويلة التي أسسها عبدالله بن الخطاب الهواري عاصمة لدولته وأسرته، وتألقت حتى صارت لها أبواب خاصة في القاهرة تحمل اسمها ولجت منها تجارتها واستمرت مسيطرة على أمن وتجارة الجنوب والشمال من 918م إلى 1250م حين أنهاها قراقوش الأيوبي.

 الدولة الأيوبية
- 1172م قرر صلاح الدين إرسال حملة إلى ليبيا لضمها لملكه وطرد الموحدين وبني غانية منها، رأّس على الحملة قائده شرف الدين قراقوش. فشلت المحاولة الأولى على طرابلس 1172م فعاود الحملة 1176م، مبتدأ من الجنوب هذه المرة فاستولى على جرمة ثم أوجلة وزلة وزويلة التي أنهى فيها مملكة آل الخطاب بقتل آخر ملوكها محمد بن خطاب وأمر بالخطبة لصلاح الدين، وبانتهاء مملكة زويلة عمت الفوضى الجنوب ونشبت الحروب بين الموحدين وبني غانية وقراقوش.

- 1188م استعاد المنصور الموحدي طرابلس وفي 1190م طرد قراقوش وبنو غانية الموحدين من طرابلس واستولوا عليها، وفي 1195م استعاد المرابطون طرابلس. وامتدوا إلى ودان حيث قبضوا على قراقوش الأب وقتلوه 1212م فنشب الصراع بين بني غانية والمرابطين من جهة والموحدين من جهة أخرى وزاد المشهد اضطراباً بنهوض ابن قراقوش من جديد ودخوله ميدان الصراع على السلطة في جنوب ليبيا.

 مملكة كانم
بالقضاء على مملكة زويلة اندلعت الفوضى وتأثرت من جديد مناطق الشمال وانقطعت التجارة بين الجنوب والشمال فتأثرت بهذه الفوضى مناطق وممالك في الشمال والجنوب وكان أكثرها تأثراً مملكة كانم التي لم تكن تسعد بأي اضطراب على طرق المرور نحو الساحل خصوصاً بعد التوسع الذي عرفته زمن السلطان دونما ديبلام، ونظراً للفوضى في فزان والتي أثرت كثيراً على اقتصاد كانم قرر السلطان الكانمي التوسع في الجنوب الليبي ونقل العاصمة السياسية والإدارية من زويلة إلى تراغن. وباستقرار فزان تحت سلطة كانم أوكلت لممثليهم من بني نسور إدارة المنطقة وإقرار الأمن والسلام، ونعمت فزان بالفعل بفترة سلام انتعشت خلالها الأمور بالمنطقة كلها وأهمها عودة تجارة القوافل بين الشمال والجنوب وساد السلام الكانمي المنطقة بامتداد نفوذها المباشر من أقصى الجنوب الليبي إلى ما يقرب من 250كلم عن شاطئ البحر المتوسط وتجاوزه أمنيا إلى كل ليبيا ومجاورها، واستمر السلام الكانمي من 1258م إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي وذلك بسب الانضباط الأمني الذي مارسته السلطة على الجنوب الليبي.

 دولة أولاد محمد
مع بداية القرن السادس عشر نشب صراع بين قبلي الخرمان أو القرمان سكان وادي الآجال وقبيلة الجهمة في المنطقة، والفوضى كما يقال جالبة للفوضى فساد الجنوب مرة أخرى صراع دام تضرر منه الأهالي وتقطعت طرق القوافل بين الشمال والجنوب التي كانت المصدر الرئيسي للثروة في فزان وليبيا كلها.

في هذه الفترة وصل شريف مراكشي اسمه محمد الغاسي إلى فزان ماراً في طريقه للحج، وكما هي عادة الناس في ذلك الزمان طلب إليه الأهالي التوسط لإنهاء الصراع ونشر الأمن.

وبحكمة وصبر تمكن من إقرار الأمن أحياناً بالبركة وأحيانا بالدبوس كما يقال، وهكذا تكونت في الجنوب دولة شريفة بنت لها عاصمة في مرزق التي أصبحت المركز الاقتصادي والسياسي للجنوب الليبي، واستمرت الأسرة تحكم باسم دولة أولاد محمد من 1520م إلى 1813م أي لما يقرب من ثلاثمائة سنة.

وتعتبر دولة أولاد محمد من أوائل المحاولات لتكوين دولة مدنية ليبية وتمتد من شمال بحيرة تشاد إلى الجفرة متقدمة على الدولة القرمانلية التي أسسها أحمد القرمانلي 1711م. وضمت كل ليبيا، كما أنها كانت أول محاولة لبناء الدولة الحديثة على أساس حاكم أعلى يسمى بسلطان له ديوان تصدر عنه وتسلم إليه المراسلات الرسمية والمدنية التي كانت كلها باللغة العربية، ومجلس شورى يلتأم دوريًا في القصر الأحمر بمرزق برئاسة السلطان وقضاة بكل المناطق ترفع إليهم المنازعات والفتاوى وما اختلف فيه يرفع إلى القاضي بالمحكمة العليا بمرزق. عسكرياً كان للسلطان حرس خاص علاوة على جيش من القبائل الحليفة له للمساعدة في إقرار الأمن ومحاربة الخصوم كلما لزم.

وعندما استقرت الدولة العثمانية في طرابلس سنة 1551 وبعدها ببرقه سنة 1578م سعت لمد نفوذها إلى الجنوب سنة 1577م على حساب سلطنة أولاد محمد. وتفادياً للحروب والانشقاقات واعترافاً بالحقائق أقر سلطان مرزق الأمر الواقع ووافق على دفع مبلغ من المال لمقر الولاية للدولة العثمانية بطرابلس مقابل الاعتراف له بالسيادة على فزان وتأمين الحدود الليبية الجنوبية.

ونتيجة لهذه الحكمة والدبلوماسية الراقية ساد السلام المنطقة خلال أغلب الفترات وتأمنت التجارة بين الشمال والجنوب.

 الدولة القرمانلية
في عهد يوسف القرمانلي ضيقت الدول الكبرى الخناق على ليبيا مما أفقد الخزينة أموالاً كان يُحصِّلها يوسف القرمانلي من تحركاته في البحر المتوسط. ولتعويض هذا النقص اختار يوسف التوجه نحو فزان ومنها إلى أفريقيا، وأعد لهذا الغرض العدة العسكرية اللازمة، كما زاد من الضرائب والمطالبة بزيارة الإتاوة التي كان يأخذها من سلطان فزان. ونظراً لضخامة المبلغ رفض سلطان فزان دفع المطلوب، فأرسل لهم يوسف القرمانلي قوة عسكرية ضخمة معدة لغزو أفريقيا، قضت على مملكة أولاد محمد واستولت على مرزق. وبذلك فقُدت القوة المسيطرة التي كانت تقوم بدور الحامية للحدود الليبية الجنوبية وتأمين طرق التجارة بين الشمال والجنوب.

اضطربت الأحوال الاقتصادية للشمال الليبي نتيجة لهذا الفراغ الأمني بالجنوب وتذبذبت التجارة لانتشار السلب والنهب على الطرق فثار الناس في طرابلس ودرنة وغيرهما وعمت الفوضى.

 العهد العثماني الثاني 1835- 1911
هذه الاضطرابات أقنعت الدولة العثمانية بإعادة احتلال ليبيا لإقرار السلام وتأمين الحياة التجارية التي اضطربت مع انتهاء الدولة المؤمنة لها وهي دولة فزان تحت سلطنة أولاد محمد. اهتم العثمانيون عسكرياً بالجنوب فحولوا عاصمته مرزق إلى منطقة عسكرية حصينة يرسلون لها بالخصوم والمخالفين، وأقاموا أكثر من نقطة عسكرية على الحدود الليبية الجنوبية مثل بيلما وجنوب تبيستي بعين كلك لمنع التسلل ومراقبة تقدم الدول الكبرى وقتها وبالذات بريطانيا وفرنسا في صراعهما على الأراضي الأفريقية.

وزيادة في الحيطة والاهتمام أرسلوا رفيق مصطفى كمال أتاتورك وهو عبدالقادر جامي للتعرف المباشر على فزان وتقديم تقرير عسكري عما يجب عمله في الجنوب الليبي التابع لمركز الولاية بطرابلس.

مجموع السنوات التي قضاها عبدالقادر جامي في فزان تقارب الأربعة عشر عاماً أوصلته في النهاية إلى أن ينتخب نائباً عن فزان في مجلس المبعوثان العثماني. تألم كثيراً، كما يشير في كتاباته، للإهمال الذي خضعت له فزان وليبيا بشكل عام وعتب على الحكومة لأنها تركت الدفاع عن الجنوب الليبي إلى القبائل الجنوبية ولم تسع بجدية لإدخال الجنوب الليبي في دائرة الاهتمامات الأولية للجيش العثماني، هذا في الوقت الذي كانت فيه القوى الأوروبية (فرنسا وبريطانيا) تتمددان في المناطق القريبة من الحدود الجنوبية الليبية ولم يمنعهما من التدخل إلا أطماع إيطاليا.

 العهد الإيطالي
غراسياني في كتابه (إعادة احتلال فزان) اعتبر معارك 1915 بما فيها القرضابية وما نجم عنها من هزائم لإيطاليا مردها عدم تأمين المناطق الجنوبية عسكرياً قبل الاشتباك مع الليبيين في الشمال، وحدد شروط الاستمرار في احتلال ليبيا بوصول القوات الإيطالية إلى أقصى الحدود الجنوبية لليبيا كشرط لازم لتأمين الشمال واستقرار ليبيا.

وهو في ذلك يستفيد من التجربة الرومانية حسب قوله، واهتم كثيراً بالمرسوم الصادر في أول يناير 1925م الذي جعل كل أراضي الجنوب الليبي منطقة عسكرية تحت قيادة عسكرية واحدة وبناء على ذلك استثنى الجنوب من كل القوانين المدنية بما فيها الجنسية الإيطالية التي اقتصر تطبيقها في الشمال دون الجنوب. واستمر الوضع العسكري لفزان دون غيرها من المناطق الليبية حتى الحرب العالمية الثانية التي استولت بعدها فرنسا على فزان التي ظل الحكم فيها عسكرياً إلى الاستقلال الليبي في الخمسينات.

 ختاماً:
- كان هذا هو الحال زمن الحصان والجمل والسيف والمنجنيق، أما الآن فالأمر أعقد وأبسط، أبسط لتطور التقنية التي قهرت المسافات وأعقد لاحتكارها من قبل الكبار دون الصغار.

- وبما أن لكل شيء ثمن كما كان قديماً، فعلى الليبيين تبصر مصالحهم وسط هذه الغابة من المتناقضات. وأولها الاستفادة من تجاربهم، لقد امتدت فوضى ما بعد الرومان حتى حسمتها قوة الدولة الإسلامية الأولى، واستمرت فوضى قراقوش ومن معه حتى حسمتها قوة إمبراطورية كانم في القرن الثالث عشر، واستمرت فوضى ما بعد يوسف القرمانلي حتى حسمتها قوة الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، وفوضى ما بعد الحربين العالميتين حسمتهما القوى العظمى في القرن العشرين.

- وإذا كان التاريخ لا يكرر نفسه في الشكل فإن لكل مرحلة تيارها التاريخي المتحكم وقواه العظمى التي قد تساعدك متى اتفقت مصلحتك مع استراتيجيتها العليا ولكنها لا تمانع في انتحارك إذا قررته بالفوضى وسبق الإصرار والترصد.

- وإذا سلمنا بمقولة إن ليبيا علمت العرب والمسلمين الجهاد فإن السياسة هي الحرب بلا دماء، وجهادها يكون بالحكمة التي ناور بها المرحوم الملك إدريس ورفاقه بين مصالح الدول العظمى حتى أخرج دولة ليبيا الحديثة التي حمى جنوبها شمالها وشرقها غربها.

وقديماً قيل: التمس لنفسك بين الظالمين طريقا حتى لا تدوسك الأقدام.

أ.د. محمد الطاهر الجراري