Atwasat

الشعارات الوطنية في سوق الحروب غامضةِ النوايا

فوزي الحداد الأحد 01 مايو 2016, 12:08 مساء
فوزي الحداد

الذين يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة للقضاء على من يجسدون الشر هو تدميرهم، فليُدمِروا، دمِّر كل ما يقع عليه بصرك، إذا كنتَ تؤمن بهذا النوع من التدمير، فأنا لا أومن إلا بالتدمير الطبيعي، الطارئ على الخلق والمتأصل فيه. البعض يعتقد أن إعلان الحرب يغير كل شيء، ليت هذا صحيح، ليتنا نستطيع أن نصبو إلى تغيير جذري، كاسح، كامل وشامل، لكن التغييرات التي تجلبها الحرب لاشيء مقارنة باكتشافات أديسون واختراعاته، ومع ذلك يمكن للحرب أن تحدث تغييرات خيِّرة أو شريرة في روح الشعب، وهذا ما أنا مهتم به بصورة حيوية: تغيير القلب وهدايته.

الأسطر السابقة كانت من كلام الكاتب الأمريكي هنري ميللر في كتابه "كابوس مكيف الهواء" وفيه أعلن- ضمن ما أعلن- رفضه لحالة الإرهاب الفكري التي سادت بلاده طيلة السنين التي سبقت الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تسعى لإخراس كل صوت مختلف يرفض الحرب ويدعو للسلام. ويعلق موقناً أن الحرب قادمة لا محالة لكنه يدرك أيضاً أن مشاكل الشعب لا تحل بترديد الشعارات في المنابر أو في الميادين، يقول: "إذا احتاج الأمر حدوث كارثة كالحرب لإيقاظنا، فليكن.

دعونا نرى بعدها إن كان العاطلون عن العمل سيجدون عملا، والفقراء سيُكسَون جيدا ويطعمون ويؤون، دعونا نرى إن كان الأغنياء سيجردون من غنائمهم لكي يعانوا حرمان المواطن العادي وآلامه، دعونا نرى إن كان عمال أمريكا كلهم على اختلاف طبقاتهم ومقدرتهم وفائدتهم يمكن إقناعهم بقبول أجر موحد، دعونا نرى إن كان الناس سيتمكنون من الجهر برغباتهم بشكل مباشر، من دون توسط وتحريف، ومن دون التصرف الأخرق للسياسيين، دعونا نرى إن كنا نستطيع أن نوجد ديمقراطية حقيقية لتحل محل تلك الزائفة التي استنهضنا لندافع عنها، دعونا نرى إن كنا سنستطيع أن نكون عادلين ومنصفين مع أقراننا، ناهيك عن العدو الذي سنقهره بلا أدنى شك."

ولاشك أنك ترى معي أيها القارئ الكريم أن كلام ميللر يكاد ينطبق على الحالة الليبية، خاصة وهو يتحدث أيضا عن مظاهر (الوطنية الشكلية) التي اجتاحت البلاد، فيقول ساخرا ممن يرفعون العلم الأمريكي في كل الشوارع: "لقد أضحى العلم عباءة يختفي تحتها الظلم، إن لدينا دائما علمين: واحد للأغنياء وواحد للفقراء، عندما ينشره الأغنياء فهذا يعني أن كل شيء تحت السيطرة، وعندما ينشره الفقراء فإنه يعني الخطر والثورة والفوضى". وعندنا كذلك تنتشر مظاهر الوطنية الشكلية. لكنها تأخذ أشكالا عديدة وطرقا كثيرة تفنن فيها الليبيون، وخاصة المراوغين منهم، العابرين لكل الحقب والأزمنة والأنظمة، ولا أنسى اللصوص كذلك، الذين سرقونا تماما باسم الوطنية الشكلية الزائفة.

لم تغير كلمات هنري ميللر الواقع وقتها- يعلق الكاتب بلال فضل- لكنها لم تذهب أدراج الرياح إلى الأبد، بل بقيت حاضرة إلى أن سكنت وجدان أجيال تالية اكتشفت بالتجربة أن العالم الذي شاركت في صنعه أمريكا بعد الحرب لم يكن سوى أكذوبة كبيرة.. ولذلك استمر البسطاء يدفعون وحدهم دائما ثمن الحروب غامضة النوايا التي يلجأ أصحاب المصالح إلى تسويقها بشعارات الوطنية البراقة، ليحققوا أحلامهم في المزيد من النفوذ والسلطة، ويبقى الفقراء وحدهم يعيشون كابوسهم الذي حتى وإن جعله الحكام مكيف الهواء مسكونا بالأحلام ومتخماً بالأغاني الوطنية، فإنه سيظل كابوساً يجب في كل الأحوال التخلص منه.