Atwasat

الأخبار كما تأتي من الوطن

نجوى بن شتوان الثلاثاء 19 أبريل 2016, 12:23 مساء
نجوى بن شتوان

- أنا بخير طالما الأربعة جدران التي أنا بينها لم تتصدع تحت أي قصف إلى الآن، ولم يتأثر السقف بالمطر ويشرع القاطر، أنا بخير، بل أنا في كامل الخير ما تخطتني هدية كهدية جاري العام الماضي، كان كثير التودد، محاولاً التسلل لقلبي عن طريق السقف، فاشترى وعاءً بلاستيكياً أحمر، رسم داخله قلباً وأرسله لي مع صغيره!.

كسرت الوعاء، وقصدت وضعه في مكانه الصحيح قرب كيس القمامة المنزلي كي يراه، ثم وقفت بكامل أناقتي وزينتي تحت القاطر وناجيت رجلاً لا أجده في ربعنا الخالي، طالما يجذبني وجودك فلن أرى الفراغ، طالما أبحث عنك في مناكب الأرض فلن أتعثر بسواك. مازال سقفي عالياً إلى اليوم في بلاد ليس لحلم فيها أن يفتح عينيه، دون أن يفقأهما أحد!.

- بدأت أرسم بعد متوالية من السنوات العجاف، وفي الوقت نفسه زاد اهتمامي بأشعار" آن سيكستون" أقر بأن ذلك غير إيجابي بالمرة، و أرجو ألا يكون من قبيل ما حدث لغويا في أخريات آيامه إبان الحرب في أسبانيا، فقد لاحظت بأني أرسم نفسي في لحظات حزن ساحق مثله، وأعلق رسوماتي في المطبخ، إحدى اللوحات تصاعدت عليها أبخرة الطهي، فغيرت ألوانها وتقنيتها، قد تجد ناقداً فنياً فذاً يقول عن فلسفتها اللونية الكثير، جاهلاً بأن الطنجرة هي التي لونتها على ذلك النحو من الإتقان المعقد، حين كنا نطهو على الحطب لانعدام غاز الطهي. النقد يجعل النقاد يقولون أشياءً غريبةً كما لو أنهم يلبسون طنجرة شفافة على رؤوسهم، ليس بوسع أحد رؤية الأبخرة المتصاعدة منها!

هناك خبر مفرح للغاية اشتركنا مع شركة محلية ناشئة لجمع القمامة مقابل مبلغ شهري هكذا استبعدنا فرضية انتشار الطاعون

- أردت أن أنشيء مشروعاً صغيراً، أردت تجربة خطوات واقعية باتجاة حلمي، مضى العام الأول للثورة دون صراعات دموية، فقررت إجراء تعديلات في البيت بإزالة بعض حيوطه وتحويره للحصول على صالة عرض صغيرة، يعلوها سقف زجاجي يشكل أرضية لفضاء رسم. وإذ بالمليشيات تعمل معي في نفس الوقت في الطرف الآخر من المدينة، شرعت في خطف الأجانب وذبح بعضهم، لم أعد أجد عاملاً يسد لي حفرة، صرنا نعيش في بيت نصف مهدم، وتوقف المشروع عند مرحلة الركام والندم والزكام، و فيما ظل الركام في مكانه، توسع الندم خارج حدود البيت المحفور، شاملاً هو والزكام، الأهل والأصدقاء الذين لم يستطيعوا تحمل برودة البيت وتجاويفه المعتمة.

لديهم حق ما كان يجب أن أشرع في شيء إلا بعد وضع دستور للبلاد بديلاً عن دستورها المجمد، وتأسيس جيش وشرطة وعودة المليارات الليبية المنهوبة واستقرار دولة اليمن السعيد والقضاء على مرض الكسل.

ترى هل كان على معماري الرب- أنطوني قاودي- أن ينتظر عمراً حتى يتغير ذوق سكان برشلونة ويستنكهوا عمارته، أم كان عليه هو أن يكون التغيير؟

- هناك خبر مفرح للغاية، اشتركنا مع شركة محلية ناشئة لجمع القمامة مقابل مبلغ شهري، هكذا استبعدنا فرضية انتشار الطاعون، جاؤوا وكتبوا أرقاماً على البيوت، فرح الجيران وأخرجوا دلاء القمامة، شعرنا أن الحياة تعود للشارع، كتبوا على بيتنا تسعة كبيرة، ولسعادتي بهم صرت أخرج كل يوم وأنشد معلقة (إن شالله كل يوم هما في الزايد والكناسه في الناقص).

وماهي إلا أيام حتى صارت القمامة في تزايد ومساعي الشركة في تناقص، راقبنا الوضع لمعرفة العلة، فرأينا أناساً يحضرون قمامتهم ليلاً ويلقون بها عند البيوت المرقمة، تصدى لهم ابني الذي ينام النهار بطوله ويصحو الليل بطوله، فأشهروا عليه أسلحة أوتوماتيكية، قال لهم مغيراً التكتيك:

- تفضلوا الشارع شارعكم ونحن تحت أمركم.
حين سألته لماذا ينام على غير عادته في الليل، تكوم تحت البطانية جيداً ثم أجابني:
- من العار أن يموت الرجال في مواجهة داعش وأموت أنا بسبب القمامة.

منذ تلك الحادثة اشتريت طلاءً وتحينت الوقت الذي لا يأتي فيه الناس بقمامتهم (احتراماً للخصومة) ثم قمت بطلاء سور المنزل بنفسي حتى اختفت التسعة الكبيرة، وصرت أتحين مجيء السيارة والعمال لأقول لهم شخصياً، أنا رقم تسعة، تفضلوا خذوا فضلاتنا لو سمحتم.

هناك عامل لطيف جداً بينهم، يبدو أنه سيفقد عقله قبلي، قال لي حاشاكِ سبعة عشر مرة وهو يحدثني عن غرق العاصمة في القمامة وخشيته من انتشار الطاعون، سألته أو يذهب للعمل في طرابلس كذلك؟
قال: كلا إنه يعني بنغازي عاصمة لليبيا مع طرابلس، وفقاً لدستور البلاد المعطل.

يبدو أنه مطلع جيداً على قواعد تأسيس البلد، وذلك مفيد أيضاً لمن يرموننا بالقمامة، معتقدين أن نظافتهم الخاصة تتطلب أن يتحمل غيرهم عبء قذاراتهم.

- إدارة البعثات فتحت أبوابها يوم الأمس، بعد أن خطفت مجموعة مسلحة تضع الجوارب على وجوهها، المدير الجديد، أعتقد بعد عودته من شهر العسل لدى الميليشيا الخاطفة، ستصدر عنه الكثير من القرارات الغريبة، ستسري رغم غرابتها، فربما احترقت مؤخرته بفرنيللو خلال خطفه، أتمنى أن يكون إسمي في القرارات القادمة، فلطالما انتظرنا تسريع إجراءات الابتعاث دون باربكيو، لكن قدر الله وماشاء فعل.

يعلم الله كم أكره أن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، لكني مجبرة على قبول فائدة جلسة الفرنيللو، إذا كانت تلك إحدى أنجع الطرق المؤدية إلى روما من ليبيا!

- بورصة سعر البيض في ارتفاع، أصبح سعر البيض يناطح سعر اليورو والدولار، واقعياً الدجاج يعيش معنا أزمة مزدوجة نتيجة الانفلات الأمني، إنه أكثر المخلوقات المتعبة من وجودها هنا، ولا أعرف لماذا لا تعتبره منظمة عالمية واحدة من منظمات حقوق الحيوان، حيواناً وتدافع عنه؟

إن الدجاجة ممنوعة من احتضان صغارها منذ اشتعلت الحرب الليبية الثانية، تتواصل مع الديوك فقط لصالح بقائنا، أي أن جزءاً مهما من حياتها تعرض للبتر أو انقرض في هذا الركن الكئيب من العالم، لاشك أنها تسمع مثلنا لنشيد (سوف نبقى هنا حتى يزول الألم) وتفهم مدى فظاعة ارتباط البقاء بالألم، أكثر من الحمير الذين صنعوه لنا.

- هناك مناوشات مسلحة تحدث باستمرار تحت الجسر القريب من بيتي، نسمعها مثل حفل فني ساهر يوماً تلو الآخر، ثم نسمع أنه نجم عنها موت عنصرين أو ثلاثة قبل أن تعود المياه العاطنة إلى مجاريها، ثم تحدث مناوشات أخرى يذهب جراءها عنصران أو ثلاثة للآخرة وتعود المجاري من جديد.

أوشك أن أصاب بالجلطه لولا الأسبرين والاستماع لفاطمة الحمصة، صرنا صديقتين بعدما كنت لا أطيق صوتها وصراخها، وأتشيع لنينا سيمون وفاغنر وسيزاريا إيفورا، الآن تعدلت أفكاري بخصوص الصراخ بشكل عام والحمص بشكل خاص.

أقنعني ما قرأته عن الأذن البشرية التي تشهد تبدلاً فيزيولوجياً في العصر الحاضر، فعالم الأصوات من حولنا يتبدل وعلى المرء أن يأخذ في اعتباره أصوات الشارع في المدن الحديثة.

لذا أخذت في اعتباري أن رزيم الحمصه، أفضل من شخير الهاون، ومن هزيز الميراج منخفضة الارتفاع، ومن طنين الطائرة دون طيار، ومن ثاني أكسيد القنوات الليبية.

- يومياً أوصل الأولاد للمدرسة، ابني الكبير لا يذهب للجامعة، هناك اعتصام طويل الأجل بسبب الرواتب والطلبة هم ضحيته، الجميع يبحث عن حجة كي لا يعمل، بمعنى لا دراسة هذا العام وهذا يزيد من متاعبي معه، يقضي وقته نائماً ولا يصحو لمساعدتي في شيء، إنه يذكرني بأنانية والده، يرفع شعار ستيفن هوكينج: مهما ظهرت الحياة صعبة دائماًهناك شيء يمكنك فعله وتنجح فيه.
و ينجح في النوم طيلة النهار!

ضيفي لي كذلك مسحة من السعادة والفرح من أجل أمي، أعرف أنها ستبحث عمن يقرأ لها المقال وتفتش عني في ثناياه

أحيانا أكرهه حتى وهو ابني، مجسدة فيَّ روح لوحة غويا السوداء "ساترن يأكل أبناءه" وأحياناً تحضر فيّ روح امرأة (مذبحة الأبرياء) لبول روبنز وهشاشة( امرأة غورنيكا) لبيكاسو وحالات (أمومة) كيتي كولفز وفزع أم نبي في القرآن ألقت بطفلها لليم خوفاً عليه، فتتشابك عندي الأمهات، ولا ينتزعني مني إلا صوت ابنتي منادية (ماما تعالي ونسيني، نبي نلعب في الجنان وخايفة بروحي)

أرافقها ليس فقط كأنيس أو لمبة أو شمعة، بل كفضاء آمن، أرسم لها نقيزه على الأرض وأجاريها في اللعب، حتى وجدت نفسي أُقبل الفرنجية" قطعة حجر" بمثل لهفتها مغمضة عيني على رغبة الظفر دائماً.

ذات إغماضة نسيت نفسي وقطعة الحجر على فمي، عندما فتحت عيني ألفيتها تنظرني باستغراب، بدت لي عجوزاً كبيرة لديها سن واحدة في فمها، سألتني بارتياب: ماما.. كنك كبرتي عشر سنين توا؟
آآه ويلي كيف يشيخ الصغار باكراً في هذا البلد ويندم الكبار أنهم كبروا!

- لدى ألم، لا أستطيع تحريك يدي جراءه، بعد خطف مدير المستشفى قررت تجربة العلاج بالحجامة، في مركز من مراكز العلاج الشرعي التي انتشرت بعد الفتوحات الإسلامية سنة 2011 وتخصصت في علاج الحسد والمس والبغضاء والسرطان والتكلس المهبلي وتكسر الصفائح، الحقيقة كنت محبطة أروم وقف الألم بأي وسيلة، في الطريق صادفتني جنازة، ركنت السيارة وقرأت الفاتحة على روح الميت، ثم واصلت دربي، وجدت باب المركز مغلقاً بسلسال وقفل، عندها سألت الحارس، فأجاب بأن الشيخة ماتت أمس برصاصة طائشة وهي في طريقها للمنزل، والجنازة التي عبرت الطريق هي جنازتها، آنذاك ركبت سيارتي بسرعة ولم أرد العودة للمنزل خوفاً من رصاصة طائشة متخصصة في العائدين إلى منازلهم،أدرت راديو السيارة للتمويه وقصدت طريقاً معاكسة، كان المذيع الديني يطلق رصاصاً عشوائياً من نوع آخر:

- بنغازي أمن وأمان، بنغازي تنتعش.
كانت السيارة تفهم وحدها إلى أين تأخذني دون تقدير مني في بنغازي التي تحتضر، بعد ساعة قذفتني في البيت وأدخلت نفسها للكاراج، كنت أرتجف وأنا أدهن نفسي بزيت الزيتون الدافيء وأطلب من ولدي أن يغطيني ويتركني وحيدة.

هذا اليوم كنت أقرب إلى راديو السيارة مني إلى نفسي، أقول إنني بخير وحسب، فهذا هو الخير الوحيد الذي أجده هنا وأدرك أنه يعادل تعاسة في مكان ما غير ما ليبيا.

أما ذاك الخير الذي يتحدثون عنه بثقة وجزم، ويقولون بأنه قادم لا محالة، فأنا على يقين بأن من اخترعوه لا يختلفون عن وكالة ناسا للفضاء، ماتلبث أن تعثر على أماكن جديدة في الكون، كلما ضاقت الأرض بساكنيها، أو لمزيد من الواقعية السحرية مثل الجيش المصري الذي اكتشف علاجاً للأيدز و التهاب الكبد الوبائي وانفلونزا الخنازير، إثر تصاعد موجة الرفض الشعبي لعودة حكم العسكر.

فهل يمكن لجيش لم يهزم أحداً أن يتحول إلى محاربة الأمراض؟ وهل لناسا أن تشغل نفسها بالبحث عن شيء آخر، أكثر جدوى، مثلاً الخنازير التي شفاها الجيش؟!. آه، لكم يبدو انتظار الخير معقداً، أكثر من البحث عنه أو إثبات وجوده!.

ُُتحسن الحرب وجهات النظر في أشياء وتقبحها في أشياء، فما شكل بالأمس عاراً قومياً منع سمية بنت جيراننا من قبول" حمو جوامع" زوجاً لها،سقط اليوم بألفة الناس لما هو أسوأ منه، ارتبطت سمية أخيراً بحمو، إذ ما عاد حمو سوى قديس مقارنة بمن يعملون مع الميليشيات، خطف قتل، سلخ، تعذيب، هدم بيوت، ومواهب لا تنضب أبداً.

أليس هذا (يانا يابوي) حقيقيا، أن يرفض حمو العمل مع الميليشيات ثم تقبض عليه الميليشيات المطالبة بتطبيق شرع الله، يسرق شباشب الجامع؟!

كانون أمي فيه بياض لكن ناره طافيه:
ذاك بعض ما أنا فيه من: يانا يابوي يانا يابوي الشيباني، بلغة الحمصة، وبلغة برتولت بريخت (وعلى هذه الحال انقضى وقتي الذي منح لي على الأرض) فلا تنسي صديقتي عندما تكتبين عني، أن تخفي ملامحي وما يشير إليَّ، كلون عيني الغارقة في العسل والحزن، وأنف كاترين دينوڤ الذي أحمله، اجعليها باهتة كملامح امرأة ليبية عنفها الميلاد والحياة في ليبيا، وهي لا تحث في طلب تحقيق العدالة الإلهية على الأرض وعدم تأجيلها لما بعد، إلا لخشيتها حين تطأ روحها المسحوقة الدار الآخرة، أن تجد نفسها مع نفس مجرمي الحياة الأولى بعد أن سامحهم الله، لمجرد أن أحدهم سقى كلباً يلهث من شدة العطش وهو راجع من الكازينو، أو لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، محمداً رسول الله في الأوقات التي يعطل فيها الكازينو.

ضيفي لي كذلك مسحة من السعادة والفرح من أجل أمي، أعرف أنها ستبحث عمن يقرأ لها المقال وتفتش عني في ثناياه، ثم كمن فهم كل شيء ستنظر إلى الفراغ بنظارتها العاجية الكبيرة وتسأله: مارأيك، هل يبدو أن ابنتي سعيدة بحياتها؟.

لمزيد من التمويه، اجعليها تمسك بمروحة يدوية مزركشة، بدلاً من كتيب العائلة وعلب الدواء، وعشرة مفاتيح صدئة لخزانة واحدة.