Atwasat

انشقاق لوثر ما لله، وما للناس

نورالدين خليفة النمر الأحد 05 نوفمبر 2017, 10:55 صباحا
نورالدين خليفة النمر

أعلنت الحكومة الألمانية الثلاثاء 31 اكتوبر الماضي عطلة رسمية استثنائية لتوافق تاريخه مع مرور 500 سنة على نشر مارتن لوثر لأطروحاته الـ 96 مستهلا بها عصر الإصلاح الديني والثقافي في أوروبا. وحسب واقع العلمنة المعمّم في المجتمع تُعدّ العطلة لألمان اليوم بغضّ النظر عن مشاربهم ومعتقداتهم ضرباً من الراحة والترفيه، فالكاثوليك المعنيين بالإصلاح اللوثري منذ 500 عام يكون تعطيل الثلاثاء يوماً مُضافاً لعطلة عيد القديسين الأربعاء الذي يليه، وإذا وضعنا عطلة الخريف المدرسية في الحساب فسيحظى المواطنون الألمان وعائلاتهم وغيرهم ممن يعيشون ويعملون في المناطق الكاثوليكية الغالبة، بعطلة طويلة تبتدئ من العطلة الأسبوعية إلى يوم الأربعاء حيث يكون يوم الأثنين جسراً لعطلة خمسة أيام يستثمرها الألمان لتوّفر وتسهيل أضخم خدمة مواصلات في العالم غالباً في التسوّح والسفر البيني في ألمانيا وأوربا وحتى إلى الخارج.

تفيد الإحصائيات بأن النسبة التي تتقاسمها الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية من الألمان انخفضت عام 2015 إلى28,9 %، وأن اللامنتمين إلى التبعية الكنسية ارتفعت نسبتهم إلى36 % فنسبة البروتستانتية في ألمانيا مسقط رأسها 27,1% والكاثوليكية 28,9 % .بينما في سويسرا موئلها التاريخي الثاني فوفقا للبيانات الصادرة عن المكتب الفدرالي للإحصاء، سنة 2014 فالكاثوليك نسبتهم 38% ونسبة البروتستانت26%، أما اللامنتمون دينيا، فشكلوا ارتفاعا بنسبة تناهز الـ 60% .وفي هولندا التي تشكّل البروتستانتية الكالفينية أكبر طوائفها فقد شهدت انخفاضاً بنسبة 16% عام 2011 عن 60 % في أوائل القرن العشرين وهو مايشير إلى عدِّ هولندا من أكثر الدول علمانية في أوروبا حيث يشكل اللادينيون نسبة 50% من سكانها.

المدخل المُعَلْمن لموضوع الإصلاح اللوثري لن ينفي البعد المعتقدي لتذكاره في ضمير التديّن المسيحي الشامل للطائفتين الكاثوليكية والبروتستانتية وهو المدلول الذي ترمي إليه كلمة "بروتستانت" انشقاق، والذي بالتأكيد لن يكون مناسبة للابتهاج، حيث يخامر الندم الضمير الجمعي لرعايا الطائفتين بالذات للمتدينين وكبار السن، فالراهب الكاثوليكي لوثر ما أراد في القرن السادس عشر الانشقاق الذي حدث. بل تقصّد فقط إصلاح الكنيسة، وليس التأسيس لكنيسة جديدة بديلة عنها .صدعُ الضمير هو مايدفعنا أن نتوّسل برؤية العلمنة في الكتابة عن الإصلاحية وتذكارها من زاوية السياسة في فصلها الأكثر تعقيداً، الذي يتجسد في العلاقة بين البروتستانتية والحرية السياسية.

وقائع التاريخ تفيدنا بأن كتاب لوثر المعنون بـ "عن حرية الإنسان المسيحي" كان الأكثر طباعة والأوسع انتشاراً في ألمانيا إبان القرن السادس عشر، ليس كونه حرّر الكتابة بالألمانية من أسر اللاتينية لغة الكنيسة والصفوة المثقفة بل لأن موضوعته الأساسية تدور حول الحرية الدينية فكرة الإصلاح الأساسية القائمة على مبدأ أن الغفران ليس صكّاً يمنحه القسيس في الكنيسة بل هبة من عند الرب ولدُّنه. وإحدى نتائج هذه البدعة في المنظور الكاثوليكي التشكيك في سلطة الكنيسة وصيرورة العلاقة بين الأنسان والرب علاقة أكثر فردانية. وانطلاقا من هذه النقطة تعدّدت التوّجهات اللوثرية لتصير انشقاقات نخبوية ومن ألمانيا توسّعت في الحواضر السويسرية "بازل، برن، جنيف، زيورخ"وفي الهولندية "امستردام واوترخت وهارلم وليدن" وتشعّبت مسارات الإصلاح عبر المصلحين كالسويسريين: أولريخ زفينغلي، وجون كالفن اللذين خطوا بها في مسارات جديدة نحو الحرية التي بلورت أبعادها السياسية والاقتصادية أطروحة السوسيولوجي ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية“. ومفهوم الأخلاق هنا ليس بمعناه الديني أو الفلسفي بل بمضمونه اللوثري ـ الكالفيني "البروتستانتي" المتمثل في القواعد الداعمة لنمو الاقتصاد الرأسمالي بتشعّبيها ـ أخلاق المهنة حسب الكلمة الألمانية" Beruf " ودلالاتها اللغوية المزدوجة "المهنة/ والشغف" بالمفهوم المبتكر من لوثر والمستخدم من التيارات البروتستانتية كالكافينية كون العمل مهمة بل مهنة كلَّف بها الله البشر، ـ والشغف الزاهد بالادخار حيث يحظى السعي لتحصيل الثروة بالمقبولية التديّنية إذا ماكانت وسيلة للتدوير استثماراً في المؤسسة الاقتصادية وليس غرضاً للترف والاستمتاع.

بالدلالة المتعدّدة للفعل الألماني "Aufheben ": رَفعَ ،أبطل، نقض، ألغى. شكّل رفعُ البروتستانت الإنجيل إلى مرتبة المرجعية الأعلى ـ بدون ريب ـ نقضاً وإبطالاً للمكانة البابوية، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب واسعاً لمهاجمة الحكام الدنيويين. مُطلِقاً العواصف والهبّات، كثورة الفلاحين الألمان عام 1524 لتحقيق حريتهم السياسية بقيادة المصلح الديني وعالم اللاهوت توماس منزر رفيق مارتن لوثر، ولكّن مسار التاريخ الذي يعاكس غالباً مسار التصوّرات والأفكار فيما بيّنه فريدريك إنجلز في كتابة "حرب الفلاحين في المانيا " أسفر عن معاكسة لوثر للمتجّه المعلمن الذي تطرّف به منزر بالثورة عن إصلاحية و"بروتستانتية" أستاذه الذي أدان بشدّة سلوك الفلاحين وقابل ثورتهم بالخذلان، وحسب صحيفة " بريشسي تسايتونغ" عن ماركس هو مادفع لوثر إلى الندم في سنواته الأخيرة على موقفه البائس من الثورة الفلاحية.

يمكن وصف البروتستانتية، كالمسيحية بالمنشقّة، والتي صيّرتها السلطة الرومانية كاثوليكية فالثانية وُلدت في مذود خارج هيكل الرّب اليهودي، والأولى ولدت عفوياً في مرآب الكثلكة في متوّجهه العلمني الذي بلورته الصراعات الطبقية المبتدئة. وهنا تبدو لنا البروتستانتية عدا كاريزماتيتها، ميداناً واسعاَ يشمل في آن واحد الاتجاهات الموغلة في المحافظة، والجدُّ ليبرالية. الأمر الذي يجعل الهوية البروتستانتية، قضيةَ و سؤالاً جديراَ بالطرح والإثارة. فبمجرد استخدامنا للحرية كلمة ومضموناً بقولنا إن الإنسان من حيث هو فرد المسؤول الأوّل عن إيمانه نصل إلى العلمنة. وهو ما ثمنه عاليآ كارل ماركس في دور توماس منزر، ففي رسالة بعث بها إلى صديقه إنجلز في مانشستر بتاريخ الخامس من مارس 1856 يقول فيها "إن توماس منزر كان أنفذ بصيرة من مارتن لوثر حين قال: "أنا أفهم كي أؤمن" بينما قال لوثر: "أنا اؤمن كي أفهم "وفي مقاله (مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل) يقول ماركس: "إن حرب الفلاحين وهي الحقيقة الأكثر جذرية في تاريخ ألمانيا وصلت إلى تلك النهاية المحزنة بسبب اللاهوت" وهو مايستبعد كُلياً المزاعم التي أُلصقت بماركس وإنجلز بأن قد يكون للدين دور إيجابي وثوري في الانتفاضة الفلاحية في ألمانيا.

على المقلب الآخر وهو الاقتصاد السياسي، وقد شرع ماركس في قلب رؤية هيغل تأثراً بمادية الفيلسوف الإغريقي المادي أبوقراط ونقد فيورباخ الانثروبولوجي للدين بدل وقوف الجدل الهيجلي على رأسه ليُمشيه على قدميه. يصير الدين أفيوناً للناس فالكنيسة البروتستانتية دخلت في تحالف وثيق مع حكام البلاد، حتى أن البعض يذهب إلى الربط بين عقلية الخضوع الألمانية المزعومة وبين فكر لوثر الإصلاحي تراجعا إلى يوبيلية 500 سنة إلى الأمام فتنجح الرأسمالية إلى حدّ الآن خُلقا وروحا بروتستانتيا كما تنبأ ماكس فيبر في كتابه منذ 100 عام، بينما تفشل الماركسية في نسختها السوفياتية ثورة عام1917 في روسيا التي نحتفل هذا العام بيوبيل مئويتها أيضاَ.